الخميس، 22 سبتمبر 2016

الحزب 27 سورة الحجر

تفسير الحجر 1 بيان أن القرآن حق، ورمي الكفار للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الجنون: 
قال تعالى: (الَرَ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *) [سورة: الحجر - الآية: 1-9].
(الَرَ) حروف مقطعة تقرأ: أَلِفْ لاَمْ رَا، ومعناها: أن هذه الحروف حروف عربية أنزل بِها القرآن، وهي حروف يتكلم بِها العرب الذين نزل فيهم القرآن، ومع هذا لم يستطيعوا أن يأتوا بآية من مثله، فرجع مغزاها إلى التحدي والتعجيز (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) أي هذه آيات الكتاب، وأشير إليها بالبعيد لبعد مكانتها ومنْزلتها، وسمي كتابا لأنه يجمع السور، والسور تجمع الكلمات (وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ) أي وقرآن عظيم الشأن، لمكان التنكير، واضح المعاني في إرشاده إلى الحق وتبيين الحلال والحرام وفصل الحق من الباطل (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ) أي أنّهم يودون ذلك يوم القيامة، كما في قوله تعالى: " ولو ترى إذ وُقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين "، وربما مخففة من ربّما، والمختار أنّها حرف جر للتقليل والتكثير معا، وهي هنا للتقليل، وذلك بناء على ما جاء في الحديث أن الكفار يقولون لعصاة المؤمنين في جهنم: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا؟ فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم، فذلك قوله: " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين "، والمقصود، والله أعلم، أنّهم ليأسهم وقنوطهم بعد أن يدخلوا النار، ولِما يغشاهم فيها من الأهوال، لا يتمنون الإيمان ليأسهم منه، ولكنهم يودونه بعد رؤيتهم خروج عصاة المؤمنين (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ) أي اتركهم على حالهم من الاستمتاع بالشهوات، ما دامت الموعظة لا تنفعهم (وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ) أي يشغلهم الطمع وتوقعُ حصول المآرب والأوطار لطول الأعمار (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي عاقبة سوء صنيعهم وأعمالهم (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية، بسبب عصيانِهم وإعراضهم (إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ) أي لإهلاكهم أجل مكتوب لا يتأخر ولا يتقدم، فلذلك قال: (مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يسبق هلاكُها أجَلَه المكتوب ولا يتأخر عنه، و"من أمة" فاعل ومن حرف جر زائد لإفادة العموم والاستغراق، والمقصود تحذير كفار قريش وأضرابِهم من العذاب الدنيوي الذي حل بمن سبقهم من الأمم (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي يا من يدعي أنه أنزل عليه القرآن، إنك حقا مجنون، حيث تزعم ما تزعم، والجنون فساد العقل أو غيابه (لَوْمَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي هلاَّ جئتنا بالملائكة ليشهدوا لك بصدقك، كما في قولهم: "لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا"؛ فأجابَهم الله عز وجل: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ) يعني لا نُنَزل الملائكة بطلب من أحد، فإنّهم لا ينْزلون إلا بالحق، حسب ما اقتضته حكمتنا، وذلك التنَزل إما بالوحي أو لتعذيب الكفار، فلذلك قال: (وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ) أي لا يُمهلون عن العذاب ساعة إذا تنَزلت الملائكة، لأنّه قد جاءهم من الدلائل على صدقك ما فيه عبرة لمن استبصر، فلم يبق إلا العناد، فلذلك يطلبون نزول الملائكة، ولو نزلنا ملكا لنَزّلناه في صورة رجل، لأنّهم لا يستطيعون رؤيته في صورته الحقيقية، ثم إنّهم سيعترضون بعد ذلك ويقولون: هذا بشر وليس ملكا، إصرارا على العناد، وجزاء المعاند هو أخذُه بالعذاب. وفي قراءة نافع: "ما تَنَزَّلُ الملائكةُ". (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أي نحفظه من الزيادة والنقصان ومن التحريف والزيادة.
تفسير الحجر 10 بيان أن المكذبين كان شأنُهم الاستهزاء بالرسل: 
قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ *) [سورة: الحجر - الآية: 10-15]
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ) أي رسُلا (فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ) أي في فرقهم وجماعاتِهم المتفقين على الضلال ونصْب العداوة للرسل (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ) أي ما أتى شيعةً من تلك الشيع رسول من عندنا، والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار، (إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حيث يسخر منه جهلة قريش، فيقول له ربه: لا تحزن فلك إسوة فيما تقدم من المرسلين (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) الضمير للقرآن بدليل ما بعده، أي ندخل القرآن في قلوبِهم، فيعلمون أنه كلام عظيم ليس من كلام البشر، وهو كقوله في الشعراء: "كذلك سلكناه في قلوب المجرمين"، لكنهم أبوا إلا العناد، ويجوز أن يكون المعنى: كذلك أدخلنا الاستهزاء والعناد في قلوب هؤلاء كما فععلنا بالذين من قبلهم، فلذلك لا يؤمنون بالحق؛ (لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) أي لا يؤمنون بالقرآن ويكذبون به، وقد مضت سنة الله في الأولين المكذبين بإهلاكهم، وفيها وعيد شديد وتَهديد (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم) أي على هؤلاء المعاندين والمكذبين (بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي يصعدون من ذلك الباب فيرون عجائب السماء من الملائكة وما خلق الله فيها (لَقَالُواْ) أي من شدة العمى والإصرار على الكفر (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) أي سدت ومنعت من الإبصار، أو حُيِّرت، من السكر ضد الصحو، وما نراه تخييل لا حقيقة (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) أي سحرنا محمد، كأنّهم قالوا: لم يقتصر الأمر على أبصارنا، بل سحر محمد قلوبنا.
تفسير الحجر 16 دلائل القدرة والربوبية: 
قال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ، وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ، وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ، وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *) [سورة: الحجر - الآية: 16].
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا) البروج جمع برج، وهو في اللغة الحِصن والقصر، والمراد بِها هنا: الكواكب، كقوله تعالى: "تبارك الذي جعل في السماء بروجا، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا" (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) أي زينا السماء بما جعلنا فيها الكواكب، فمن نظر فيها استبصر عجائب صنعه وقدرته سبحانه، كما قال تعالى: "إنا زينا السماء بزينة الكواكب" (وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ) أي حفظنها من صعود الشياطين إليها، لينقلوا أخبار السماء إلى الأرض، والرجيم أي المبعَد والمطرود من الرحمة (إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي خطف السمع، كقوله: "إلا من خطف الخطفة" (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ) أي فتدركه شعلة ساطعة من نار ظاهرة للعِيان، وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " إذا قضى الله الأمرَ في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانا لقوله، فإذا فُزِّع عن قلوبِهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقُو السمع هكذا واحدٌ فوق آخر، فربما أدركه الشهاب قبل أن يرمي بِها إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بِها إلى الذي هو أسفل منه، حتى تنتهي إلى الأرض، فتُلقى على فم الساحر، فيكذبَ معها مائة كذبة، فيصدَّق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا: يكون كذا وكذا، فوجدناه حقا، للكلمة التي سمعت من السماء " وفي الصحيح أيضا: قالت عائشة رضي الله عنها: سأل أناس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الكهان؟ فقال: إنّهم ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله فإنّهم يحدثون بالشيء يكون حقا؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: تلك الكلمة من الحق، يخطَفها الجني، فيُقَرقرُها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة "؛ (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا) أي بسطناها ليحصل الانتفاع بِها، وهذا لا ينفي كرويتها، لأن كل جزء من الكرة العظيمة يُرَى مُستوِياً؛ (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) أي جبالا ثوابت، أي لكيلا تضطرب بمن عليها، كما في قوله تعالى: "وألقى في الأرض رواسي أن تميدَ بكم" (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) أي مقدَّر بمقدار تقتضيه الحكمة، أو من كل نبات جميل المنظر متناسب الخلق (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) جمع معيشة، من العيش، والياء فيها أصلية، فلذلك لم تجمع على معائش، كمدينة مدائن، لأن مدينة أصلها مدن، فالياء فيها مزيدة، أي ما تعيشون به وتنتفعون من المطاعم والمشارب وغيرها (وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) أي وجعلنا معايش لمن لا ترزقونَهم من العيال والخدم والدواب، وفي هذا رد عليهم في اعتقادهم أنّهم يرزقون هؤلاء العيال وغيرها، أو المعنى جعلنا لكم المعايش وسخرنا لكم الدواب التي تركبونَها والأنعام التي تأكلونَ منها والعبيد والإماء التي تستخدمونَها، ورزقهم على خالقهم لا عليكم، فمنفعتهم لكم والرزق على الله (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ) أي أنه مالك كل شيء، عنده خزائن الأشياء كلها (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) أي بمقدار معلوم عندنا حسب ما تقتضيه حكمتنا (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) جمع لاقح، أي حامل، شبهت الريح التي تسوق السحاب بالناقة الحامل، أو لواقح بمعنى ملاقح: جمع مُلقِحة، من ألقح الفحلُ الناقة: أي ألقى فيها ماءها لتحمل (فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) أي جعلناه سُقيا لكم ولأنعامكم ومزارعكم (وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) أي بقادرين على إيجاده وخزنه في السحاب، أو وما أنت بحافظين له في مجاريه في الأرض عن أن يغور فلا تنتفعون به (وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي نحن نخلق الحياة في الأجسام ونوجدها، ونميتها بإزالة الحياة منها (وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) أي لما في أيديكم، والباقون بعد فناء الخلق، فالملك في الحقيقة له وحده، وما في أيدي الخلق إنما هي عَوَارٍ مستودعةٌ (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ) أي الذين عاشوا قبلكم وماتوا قبلكم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أي المتأخرون من الخلق، من يعيش الآن إلى يوم القيامة (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أي هو سبحانه يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم للحساب والجزاء يوم القيامة، أي هو وحده قادر على جمعهم ليس بحاجة إلى من يعينه، والضمير في قوله: ربك، للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل مستمع (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي حكيم في تقديره وتشريعه، عليم بعباده لا يخفى عليه شيء من أمره، وفي الآية تنبيه على أن تكليفَ العباد ومحاسبتَهم على أعمالهم ومجازاتَهم تابع لحكمته عز وجل في خلقه.
تفسير الحجر 26 خلق الجان والإنسان، وعداوة الشيطان لبني الإنسان: 
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ * (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ *) [سورة: الحجر - الآية: 26-48].
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ) أي من طين يابس إذا نُقرَ سُمعت له صلصلة (مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) أي هذا الصلصال كائن من حمإ، وهو الطين الذي تغير واسود بمباشرة الماء، مسنون: أي مُنتن، أو مصبوب: كأن الطين صُب في قالب على هيئة الإنسان (وَالْجَآنَّ) هو اسم لأبي الجن، أو اسم لجنس الجن، وقيل إنه إبليس، وأن إبليس هو أبو الجن (خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ) أي قبل خلق الإنسان (مِن نَّارِ السَّمُومِ) السموم هي الريح التي تقتل لحرارتِها، وفي سورة الرحمن: "وخلق الجان من مارج من نار" أي شعلة ذات لهب شديد (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا) أي إنسانا، أو خلقا باديَ البشَرة، وهي ظاهر الجلد (مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) تقدم تفسيره (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) أي جعلته مستويا معتدلا، من التسوية، أو صورته، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) وفي الحديث: أن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، والنفخ يجوز أن يكون حقيقيا، او عبر به عن جعل الروح والحياة فيه (فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) أي فاسجدوا له، أي سجودَ تحية وتكريم، لا سجود عبادة، والظاهر أن المراد بالسجود السجود المعروف، لا مجرد الانحناء، بدليل فقعوا، لأنّها تدل على الخرور (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) أي بعدما خلق آدم وسواه ونفخ فيه من روحه، والظاهر أنّهم سجدوا كلهم في لحظة واحدة، ولذلك أكده بـ"كلهم" ثم بـ"أجمعون" (إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي امتنع من السجود، وإبليس كان جنيا على الراجح، ولم يكن ملكا، ولكنه داخل في الخطاب، وإن كان الخطاب موجها للملائكة، لأنّهم كان معهم، فلذلك كان الراجح أن الاستثناء متصل (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) يعني أي سبب لك في امتناعك من السجود؟ ويجوز أن يكون أصل تقدير الكلام: ليس لك عدم السجود، يعني فكيف تجرأت على عدم السجود؟ (قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) يعني لا يستقيم ولا يصح أن يقع مني سجود لبشر مخلوق من هذه المادة، أي أسجد له وأنا خير منه، فقدَّمَ قياسَ عقله بأنه أفضل من آدم، على أمْرِ الله عز وجل، وكذلك كلُّ من قدم رأيه وفهمه على كلام الله ورسوله فهو شبيه بالشيطان (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا) أي من السماء، بدليل قوله تعالى: "قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها"، وقيل: من الجنة، (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي من رحمتنا ومن كل خير (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) أي السخط والإبعاد إلى يوم الجزاء والحساب (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي أمهلني واتركني حيا ولا تُمتني إلى يوم البعث، وهو يوم القيامة، (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي إلى النفخة الأولى قبل البعث، حيث يَصعَق كلُّ الخلق، ويموتون، أي نُمهِلك إلى هذا الوقت، والظاهر أن اللعين طلب الإمهال إلى يوم البعث لينجُوَ من الصعق والموت، وبين هذه النفخة والبعث أربعون سنة، كما في الحديث الصحيح؛ (قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي) أي أُقسم بسبب إغوائك إيايَ، (لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) أي لأزينن لآدم وذريته المعاصي وكل الرذائل (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي ولأضِلَّنَّهم كلهم عن الطريق (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي الذين اصطفيتهم وأخلصت قلوبَهم لطاعتك، وقرأ آخرون: "المخلِصين"، أي الذين يخلصون لك في الطاعة (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا طريق مستقيم عليَّ أن أبينه للناس، أي بإرسال الرسل، كقوله تعالى: "وعلى الله قصد السبيل" (إِنَّ عِبَادِي) أي الذين أخلصوا له وأخلصهم له (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أي ليس لك تسلط عليهم بالإغواء والإضلال (إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) استثناء منقطع، على الراجح، أي لكن من اتبعك من الغاوين والضالين فأولئك الذين لك عليهم سلطان (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي من اتبع الشيطان من الغاوين (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) أي يدخلون منها، وروي أيضا أن المراد بالأبواب طبقات جهنم، وهي سبع طبقات، يملأ الأول ثم الثاني حتى تمتلئ كلها (لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ) أي كل باب يدخله فريق معيّن من الغواة، وقد روي أن هذه الأبواب: باب لعصاة المؤمنين، وباب لليهود، وباب للنصارى، وباب للصابئين، وباب للمجوس، وباب للمنافقين، وباب للمشركين؛ والله أعلم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا الشرك والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي في حدائق وبساتين الجنة وعيونِها وأنْهارها، وتنكيرها لإفادة التعظيم (ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) أي يقال لهم على سبيل الترحيب: ادخلوها سالمين وآمنين من كل المكاره والآفات (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ) أي حقد، والمراد ما يكون بين المؤمنين في الدنيا من الشحناء والضغائن بسبب مشاكل الدنيا (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) أي ينظر بعضهم إلى بعض، وفيه تنبيه على أنّهم في الجنة لا تدابُر بينهم، والسرر جمع سرير، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قلوبُهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يسبحون الله بكرة وعشيا " (لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) أي تعب بأي سبب كان (وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) أي أن نعيمهم دائم، لا تنغيصَ له بالنَّفاد والزوال.
تفسير الحجر 49 ذكر قصة إبراهيم عليه السلام كنموذج لسعة رحمته: 
قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ * وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا، قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ، فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ *) [سورة: الحجر - الآية: 49-56].
(نَبِّئْ عِبَادِي) خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمراد بالعباد مطلق العباد، كما يقتضيه الظاهر، (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ) أي العظيم المغفرة والتجاوز لهم عن الذنوب العظام (الرَّحِيمُ) كثير الإحسان إليهم مع ما يقترفونه من الذنوب (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ) أي المؤلم الموجع، وفي الآية وعد للمؤمنين التائبين، ووعيد للجاحدين والمعاندين، وفي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً؛ فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَيْأَسْ مِنْ الْجَنَّةِ؛ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ، لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ " (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ) أي وأخبرهم عن ضيوف إبراهيم من الملائكة، حيث جاؤوا لتبشيره بالولد بعد أن بلغ من الكبر عُِتِيّاً، وكانت امرأتُه عجوزا عقيما (إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا) منصوب بفعل محذوف تقديره: سلَّمنا عليك سلاما، أو سَلِمتَ سلاما أي سلامة، (قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون، وإنما خاف منهم إبراهيم لأنّهم لما دخلوا عليه ظن أنّهم من البشر، وكان إبراهيم كريمَ الضيافة، فذبح لهم عجلا، وأتاهم به مشويا، كما في سورة هود: "فما لبث أن جاء بعجل حنيذ" أي مشوي، فلما رآهم لا يأكلون خاف منهم، وظاهر الآية أن إبراهيم لم يرد عليهم السلام، وليس كذلك، ففي سورة هود: "فقالوا سلاما قال سلام" وهذا السياق فيه اختصار، (قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ) الوجل اضطراب النفس عند توقع المكروه، (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي فنحن ملائكة السماء جئنا لنبشرك بغلام عليم، على معنى أنه سيكون ذا علم كثير، وهذا الغلام هو إسحاق، ولده من سارَة، (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ) أي أبشرتموني بالولد على هذه الحال الْمُنافية للولد، وهذا تعجب منه عليه الصلاة والسلام واستنكار لِمَا بشره به الملائكة (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) يعني فبأي شيء تبشرونني إذن، وقرأ نافع: "فبمَ تبشرونِ" بكسر النون، وأصلها تبشرونني، فحذفت ياء المتكلم لجواز حذفها في مثل هذا الموضع، وحذفت معها نون الوقاية، وكُسرت نون الرفع للدلالة على ياء المتكلم المحذوفة (قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ) أي بالأمر الحق، لأنه أمر الله سبحانه القادر على كل شيء، وإن كان مخالفا للعادة (فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ) أي اليائسين من رحمته بتحقيق رجائه من الرغبة في المولود، وكانت سارة تنتظر الولد مدة طويلة، وكانت قد غارت من هاجر لما ولدت إسماعيل، فجاءتْها البشرى بالمولود، وقد بلغت من الكبر ما بلغت، وفي سورة الذاريات قالت سارة كما حكى الله عنها: "يا ويلتى أألدُ وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا، إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله، رحمة الله وبركاته عليكم أهلَ البيت" (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) أي لا يقنط من رحمته إلا من ضل عن سبيله المستقيم، من الكفرة المجرمين الجاهلين بصفاته وأفعاله وكمال علمه وقدرته ورُبوبيته سبحانه.
تفسير الحجر 57 ذكر إرسال الرسل لإهلاك قوم لوط: 
قال تعالى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ * فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ، وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ * وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ * وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ *) [سورة: الحجر - الآية: 57-79].
(قَالَ) أي إبراهيم عليه الصلاة والسلام للملائكة (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي ما شأنكم العظيم، الذي من أجله أرسلَكم رب العزة؟ وإنما عبر بالخطب لأنّهم لا ينْزلون إلا لأمر عظيم (قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ) هم قوم لوط عليه الصلاة والسلام، الذين لم يستجيبوا لدعوة نبيهم، وكانوا يأتون الرجال في أدبارهم، ويتركون ما أحل الله لهم من النساء، وتنكيرهم استهانة بِهم وذما لهم، أي أُرسلنا إليهم لتعذيبهم وإهلاكهم (إِلاَّ آلَ لُوطٍ) والمراد لوط وابنتاه، وأما زوجته فهي كافرة، والاستثناء هنا منقطع، لأنّ لوطا وابنتاه ليسوا من المستثنى منه، والمعنى لكن آل لوط، (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) أي من الهلاك (إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي الباقين مع الكفرة، حيث سيلحق بِهم عذاب الخزي في الدنيا، وحيثُ يخرج لوط وابنتاه بسحر، ويتركون القرية وراءهم، فينْزل العذاب على الكفرة (فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ) يمكن أن يكون لوط أنكرهم أولا، فلما عرف أنّهم رسل الله، حزن لِمَا علم من أن قومه سيظنونَهم رجالا وسيطلبونَهم بالفاحشة، قال تعالى في سورة هود: "ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بِهم وضاق بِهم درعا"، (قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي فأجابوه بأنا رسل الله، لسنا منكرين، ولكن جئنا بالحق الذي جادل فيه الكافرون، وهو ما كنت تتوعدهم به من العذاب، (وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ) أي بالعذاب الذي ينتظرهم (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) أي فيما أنبأناك (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ) أي اذهب بِهم في طائفة من الليل، والمراد هنا آخر الليل، وقرأ نافع: "فاسْرِ" بوصل الهمزة (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) أي كُنْ خلفَهم على أَثَرِهم، لتطَّلع على أحوالهم (وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ) أي لكيلا تروا ما يَحُل بالقوم من العذاب (وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) موضع نجاة أمرهم الله بالذهاب إليه، وهو الشام كما روي عن ابن عباس (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ) أي أوحينا إليه (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ) بيان للأمر الموحى: أن أولئك الكفرة سيهلكون ويستأصلون عن آخرهم (وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ) المراد بِهم  أولئك المجرمون الذين يأتون الرجال شهوةً من دون النساء (يَسْتَبْشِرُونَ) أي مسرورين إذ قيل لهم: إن لوطا عنده ضيوفٌ في غاية الجمال والحسن، ليفعلوا بِهم الفاحشة (قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي) أي بحسب ما يظهر للكفرة من أنَّهم ضيوف عند لوط، وإن كان لوط يعلم هو أنّهم ملائكة، أو لأنّهم ضيوف حقيقة باعتبار نزولهم عنده (فَلاَ تَفْضَحُونِ) أي فلا تفضحوني بما تتعرضون لهم به من السوء (وَاتَّقُوا اللّهَ) أي خافوا الله واتقوا سخطه بما تُقْدِمون عليه من الرذائل (وَلاَ تُخْزُونِ) أي ولا تُذلونِي ولا تُهينوني (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) يعني قد نَهيناك عن ضيافة أحد، وإجارة أحد، والحيلولة بيننا وبين ما نريد منه (قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) المراد بالبنات نساء القوم، لأنّهن بمنْزلة بناته، يعني فتزوجوهن، هن أطهر لكم من إتيان الذكور، أو المراد بناته حقيقة، ويؤيده قولهم في هود: "قالوا لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد"، وكان ذلك منه على سبيل إرخاء العنان، وليردهم إلى صوابِهم إذ بلغ الأمر حدا لا يطاق (لَعَمْرُكَ) أقسم المولى عز وجل بحياة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي في شدة غَوايتهم يتحيرون، حيث أذهبت الغَواية صوابَهم وأزالت عقولهم، فكيف يَقبلون النصح، فلما أصروا ضرَبَهم جبريل بجناحه فأعمى أبصارهم فوَلَّوا مدبرين، كما قال تعالى: "ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم" (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبريل بِهم (مُشْرِقِينَ) داخلين في الشروق، أي وقتَ شروق الشمس (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) أي عالي المدينة رجع إلى أسفل، حيث رفعها جبريل إلى السماء وقلبها، فرجعت سقوفها إلى أسفل (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ) أي من طين متحجر (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) أي للناظرين المتفرسين الذين يعتبرون بما يرون، قال تعالى: "ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطرَ السَّوْء"، يعني كفار قريش، يرون هذه القرية في أسفارهم، ولا يعتبرون، فلذلك قال: (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي في طريق يسلكه الناس (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ) أي ما حل بِهذه القرية علامة يستدل بِها المؤمنون على عظمة الله عز وجل وقدرته على الانتقام من المجرمين (وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ) الأيكة: هي الشجر الملتف، والمراد بأصحابِها قوم شعيب، لأنّهم كانوا يسكنون بغيضة كثيرة الأشجار، فأخبر المولى أنّهم ظالمون حيث لم يستجيبوا لدعوة نبيهم شعيب، وكانوا يعبدون الأصنام ويُطفِّفُون الكيلَ والميزان. و"إنْ" هنا حرف نصب للتوكيد، وهي مخففة من إنَّ، واسمها ضمير شأن، واللام هي الفارقة بين "إن" النافية و"إن" المخففة، والتقدير: وإنَّ الشأنَ كان أصحاب الأيكة ظالمين، وأصل الكلام: وإن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين، (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ) أي من قوم شعيب كما انتقمنا من قوم لوط، (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ) أي قرية أصحاب الأيكة وقرية قوم لوط، أي وإنّهما لبطريق واضح يسلكه الناس، وسمي الطريق إماما لأن السالك يتبعه كما يتْبع الإمام من يأتَمُّ به.
تفسير الحجر 80 ذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح، وتسلية فؤاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتكذيب قومه: 
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ، وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ، فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *) [سورة: الحجر - الآية: 80].
(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) أي قوم صالح، كذبوا رسولهم صالحا، والتعبير بالمرسلين لأن من كذب واحدا منهم فكأنما كذبَهم جميعا، والحِجر: المكان الذي كانوا يسكنون فيه بين الشام والحجاز، (وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا) أي آياتنا الدالة على كمال قدرتنا، حيث أخرج الله لهم ناقة من صخرة صماء، آيةً ظاهرة، وكانوا يشربون من لبنها ويكفيهم جميعا، (فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ) أي لم يعتبروا بِهذه الآيات، ولم يستجيبوا لدعوة نبيهم، بل إنّهم ضاقوا دَرْعا بالناقة، حيث كانت تشرب ماءهم كله في يوم، ويستقُون الماء في اليوم الآخر، كما قال تعالى: "لها شِربٌ ولكم شرب يوم معلوم"، فضاقوا بِها حتى اضطروا إلى قتلها، (وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) يعني ينحتون البيوت في الجبال بطرا وأشرا من غيرِ ما حاجة، آمنين من العذاب، أو آمنين من تَهدمها أو من ثقب اللصوص لها، والمراد أنّهم يُؤَمِّنون أنفسهم في هذه البيوت، ولا يشكرون الله على ما مكَّنهم فيه، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي صيحة جبريل بِهم وقت الصبح إلى طلوع الشمس، وفي الأعراف: "فأخذتْهم الرجفة"، أي الزلزلة، ويجمع بينهما بأن الرجفة كانت بعد الصيحة، (فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) أي لم يدفع عنهم ما كانوا يبنونه من البيوت ويجمعونه من الأموال شيئا من العذاب (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ) أي خلْقًا مُتلبِّسا بالحق، أي بحكمة، وذلك يقتضي تطهيرَهما من فساد المفسدين وإهلاكَ الأشرار، وتوريثَ الأرض للأخيار، والحاصل أن الحكمة من خلقهما تقتضي محاسبة كل إنسان بأعماله، وذلك يترتب عليه إثابة المحسنين في الدنيا والآخرة، ومعاقبة العصاة في الدنيا ولآخرة، فلذلك قال: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ) أي ستقوم القيامة على هؤلاء المجرمين، وسيعاقبون بسوء فِعالهم (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) خطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام، أي أعرض عن الكفرة، من صفحة الوجه، كأنه يُحَوِّل لهم جانب وجهه، والجميل الذي لا يكون معه لوم أو تثريب، وذلك إنما يكون مِمَّنْ علم أن الله هو الهادي، فلا يُهلِك نفسَه حسرات على من زُين لهُ سوء عمله فرآه حسنا،  (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) أي هو الذي خلقهم وهو أعلم بأحوالهم، فلا يخفى عليه شيء، ولو شاء أن يهديَهم لهداهم (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي) أي الآيات، جمع مثنى، وسميت مثاني لأنّها تُرَدَّدُ وتكرر، والمراد سورة الفاتحة، وهي أعظم سور القرآن، لم ينْزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وفي صحيح البخاري: عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: قال لي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ "؛ وفي سنن الترمذي ومسند أحمد بإسناد على شرط مسلم: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلا فِي الإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ ". (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي لا تنظر، ولا تطمَح بنظرك، (إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) أي أصنافا من الكفرة المجرمين، أي لا تَهتم ولا تغترَّ بما وهبناهم من زخارف الدنيا، فإن ذلك زائل، وما أنعم الله به عليك من القرآن أعظم وأفضل، (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي حيث أعرضوا عن الإيمان ودعوة الرحمن (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي تواضع لهم وارفُق بِهم، وهذه العبارة كناية، وأصلها أن الطائر يخفِض جناحه ليضُمّ فراخه إليه (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي المنذر الظاهر أمرُه، وفي الصحيح: " مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ به، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَا النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ "، والنذير العريان: الذي يرى العدو قادما، فيخلع ثوبه ويشير به إلى القوم من بعيد، لأنه لا يستطيع إسماعَهم من بعيد، (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ) أي أعطيناك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، والمراد بِهم أهل الكتاب، أي اليهود والنصارى (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) بيانٌ للمقتسمين، وعضين جمع عِضَة، كسنين جمع سنة، أي قسموا القرآن وجعلوه أجزاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وقالوا هذا حق موافق للتوراة، وهذا باطل مخالف لها، وفي صحيح البخاري: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي لنوقفنّ يوم القيامة جميعَ الكفرة للسؤال والحساب (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) أي اجهر بالمأمور، وهو من صدع الزجاجة أي تفريق أجزائها، والمراد مواجهة المشركين بالقرآن، وتضليلُهم وتسفيهُ أحلامهم في إصرارهم على عبادة الأحجار، وعن عبد الله بن مسعود: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت "فاصدع بما تؤمر" فخرج هو وأصحابه؛ (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تُبالِ بِهم ولا تلتفت إلى ما يقولون (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي لا تخَف منهم فإن الله كافيك وحافظك من شرهم (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ) أي يشركون به سبحانه، يعني أنّهم يأتون أمرا أعظم من الاستهزاء بك وبأصحابك، وهو الشرك بالله (فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ) أي عاقبةَ أمرهم (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) أي ما ينطقون به من كلمات الشرك والكفر والاستهزاء بالقرآن والمؤمنين (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي سبحه تسبيحا مقرونا بالحمد، أي نزهه عن كل ما يصفه به الْمُبطلون، وأَثْنِ عليه بمحامده وصفات كماله قائلا: سبحان الله وبحمده، والراجح أن المراد بالتسبيح هنا الصلاة كما في آيات أخرى، ويؤيده قوله: (وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) أي من المصلين، عبَّر بالجزء عن الكل لشرف الجزء وهو السجود، وفي الآية إرشادٌ له عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة إذا ضاق به الحال، وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل به أمر فزِع إلى الصلاة (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي استمرَّ على عبادة ربك ودُمْ عليها حتى يأتيك الموت، ولا تُبالِ بمن ضل منهم، وعبر عن الموت باليقين، لأنه متيقَّن الوقوع، ويجوز أن يكون المراد باليقين ما وعده الله من الفتح والنصر على الكافرين.

انتهى بفضل الله تفسير سورة الحجر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق