تفسير
الكهف 79 قصة موسى مع الخضر:
قال تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ
فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا، وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ،
فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا
الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ
كَنزٌ لَّهُمَا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا، رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا *) [سورة: الكهف - الآية: 79-82].
(أَمَّا السَّفِينَةُ) أي التي خرقتها (فَكَانَتْ
لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) أي لاكتساب المعاش (فَأَرَدتُّ
أَنْ أَعِيبَهَا) أي أجعل
بِها عيبا بالخرق اليسير، الذي لا يضر، ولا يؤدي إلى إغراق من فيها (وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) أي كل سفينة صالحة، ووراء هنا بمعنى أمام، وهي من
الأضداد، وقرأ ابن عباس: "أمامهم ملك"، كما في صحيح البخاري، (غَصْبًا) أي يغصبها من أصحابِها ويأخذها قهرا وظلما، والحاصل أن هذا العيب اليسير
الذي أحدثه الخرق، سيجعل الملك الظالم يكف عن غصب هذه السفينة، (وَأَمَّا الْغُلامُ) أي الذي قتلته (فَكَانَ
أَبَوَاهُ) أي أبوه وأمه، ضرورةَ
أنه لا يكون له إلا أب واحد، وهو مما يلحق بالمثنى، (مُؤْمِنَيْنِ) أي وكان الغلام كافرا، أي باعتبار ما سيؤول إليه أمرُه عند بلوغه، (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) أي أن يغشاهما بطغيانه وكفره، لأن حبه قد يحملهما على
متابعته على الكفر ولو كانا مؤمنين، (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) أي أن يرزقنا ولدا صالحا (خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً) أي طهارة من الذنوب والرذائل (وَأَقْرَبَ رُحْمًا) أي أقرب رحمة بوالديه وبرا بِهما (وَأَمَّا الْجِدَارُ) أي الذي أقمته (فَكَانَ
لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) أي
صغيرين مات أبوهما، ولا يقال يتيم للكبير، (فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا) أي مال مدفون لهما من ذهب أو فضة (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ) أي بصلاح أبيهما الذي ادُّخر لهما، (أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) أي كمالَ قوتِهما في البدن والعقل، قد يراد به البلوغ،
وقد يراد به ما بعده (وَيَسْتَخْرِجَا
كَنزَهُمَا) أي الذي دفن تحت الجدار،
فكان سقوط الجدار سببا لظهوره، فلذلك أقامه، (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) أي فعلت ما فعلت رحمة ونعمةً من ربك، وهو شبيه بقول ذي القرنين كما
سيأتي: "قال هذا رحمة من ربي" (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي لم أفعله عن رأي واجتهاد مني (ذَلِكَ تَأْوِيلُ) أي ما يؤول إليه (مَا لَمْ
تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) أي من
الأمور السابقة: وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار. وتسطِعْ، معناه
تستطعْ، وهو من اِسْطاع يَسْطيعُ، حذفت منه التاء تخفيفا.
تفسير
الكهف 83 قصة ذي القرنين:
قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ سَأَتْلُو
عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن
كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا، قُلْنَا
يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ
حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى
رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ
أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ
عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ
أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ
بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الأَرْضِ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ،
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا، حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ
نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن
يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي،
فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء، وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *) [سورة: الكهف - الآية: 83].
(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ) هو نبي، أو عبد صالح ملكه الله الأرض وأعطاه العلم
والحكمة (قُلْ سَأَتْلُو
عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) أي ذكرا
من أنبائه (إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الأَرْضِ) أي
بتمهيد الأسباب وتيسيرها (وَآتَيْنَاهُ
مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) أي طريقا
ووسيلة توصله إليه (فَأَتْبَعَ
سَبَبًا) أي طريقا يوصله إلى مراده، وقرأ نافع:
"فاتَّبعَ" (حَتَّى
إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ)
أي على حافة البحر المحيط الغربي، الذي تمتد بلاد المغرب على ساحله، (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي في عين ذات حمَأَة وهي الطين الأسود، أي أنه رأى
الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنّها
تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلَك، (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا) أي عند تلك العين على ساحل البحر المحيط، وكان القوم
كافرين، فلذلك قال: (قُلْنَا
يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) أي
أوحينا إليه، إما بواسطة الملك أو إلهاما، وذلك بعد أن مكنه الله منهم، (إِمَّا أَن تُعَذِّبَ) أي بالقتل والأسر لأنّهم كافرون، (وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) أي أمرا ذا حسن، وهو دعوتُهم إلى الله بالتي هي أحسن،
أو المن عليهم وفك رقابِهم بعد التمكن منهم، والآية تدل بظاهرها على أن نبي، (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ) أي أصر على الكفر ولم يستجب للدعوة (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي بالقتل (ثُمَّ
يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ) أي في
الآخرة (فَيُعَذِّبُهُ
عَذَابًا نُّكْرًا) أي منكرا
فظيعا وهو عذاب جهنم (وَأَمَّا
مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)
أي عملا صالحا (فَلَهُ
جَزَاءً الْحُسْنَى) أي
المثوبة الحسنى جزاء على عمله، وقرأ آخرون: "فله جزاءُ الحسنى" (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) أي قولا ذا يسر، أي نأمره أمرا سهلا ميسرا، (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) أي طريقا آخر (حَتَّى
إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي
من جهة المشرق (وَجَدَهَا
تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا) أي ما يسترهم من حر الشمس من بناء أو أشجار أو غيرها (كَذَلِكَ) أي أمر ذي القرنين كذلك، أي كما فعل بأهل المغرب
فعل بأهل المشرق، أي من تعذيب الكفار بالقتل والتيسير على المؤمنين (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) أي علما، أي أحاط علمنا بما لديه من الجنود والآلات
والأسباب، (ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَبًا) أي طريقا ثالثا إلى جهة الشمال، (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي الجبلين، وقرأ آخرون "السُّدين"، وهما
جبلان موجودان إلى جهة الشمال، وقيل: أيضا إنّهما جبلا أرمينية وأذربيجان، والله
أعلم، (وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي
لغرابة لغتهم وبعدهم عن الناس، أو لقلة فطنتهم لا يفهمون ما يقال لهم، (قَالُوا) أي بواسطة مترجم من غيرهم، ويجوز أن يكون ذو القرنين وفقه الله لفهم
كلامهم ومخاطبتهم بما يفهمون، (يَا
ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) هم قبيلتان من ذرية آدم، من ولد يافث بن نوح، وقرأ آخرون: "ياجوج
وماجوج" بغير همز، (مُفْسِدُونَ
فِي الأَرْضِ) أي في أرضهم بكل
وسائل الفساد من قتل وتخريب وإهلاك للحرث والنسل (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) أي أجرا وجُعلا من أموالنا (عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي ما مكنني الله فيه من أسباب الدنيا خير مما تجعلون
لي من الأجر، فلست بحاجة إليه، (فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ) أي بالعُمّال وموادّ
البناء وآلاته، (أَجْعَلْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) أي
حاجزا حصينا، وهو أوثق من السد الذي طلبوه، (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي قطع الحديد (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي حتى إذا أكمل البناء وجعل السد مساويا لجانبي
الجبلين (قَالَ انفُخُوا) أي بالكيران، ليؤَجِّج عليه النار، (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) أي كالنار حيث يبدو أحمر، (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي آتوني قطرا أفرغه عليه، وهو النحاس المُذاب، (فَمَا اسْطَاعُوا) أي فما استطاعوا بحذف التاء تخفيفا، أي فما استطاع ياجوج وماجوج (أَن يَظْهَرُوهُ) أن يعلُوه ويَرقَوا فيه لعلُوِّه وملاسته، (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) أي ما استطاعوا أن يحدثوا في السد خرقا لمتانته
وصلابته، (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ
مِّن رَّبِّي) أي رحمة وإحسان ونعمة
من الله علي، ولولا فضل الله علي ما مكنني من شيء، أو على العباد، حيث صرف عنهم به
شر المفسدين (فَإِذَا جَاء وَعْدُ
رَبِّي) وهو ما وعد به من قيام القيامة (جَعَلَهُ دَكَّاء) أي أرضا مستوية، وقرأ الأكثر "جعله دكًّا" أي مدكوكا مُسَوًّى
بالأرض، كما ستسوى الجبال وتصير الأرض بارزة للعيان؛ (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي بقيام القيامة واقعا لا محالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق