تفسير
الكهف 99 الوعد والوعيد والتذكير بيوم القيامة:
قال تعالى: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ،
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ
لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي
وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن
يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء، إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ
لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ
فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ
جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا * إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ
الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً * قُل
لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ
أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا
أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ،
فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *) [سورة:
الكهف - الآية: 99-110].
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) وذلك عند النفخة الأولى في الصور، حيث تضطرب أحوال
الناس اضطرابَ البحر الذي اختلطت أمواجه، من الهَول والفزع، يوم يُدَك السد، ويخرج
ياجوج وماجوج فيموجون في الناس، ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وفي
الحديث الصحيح: " ولتقومن
الساعة وقد نشر الرجلان ثوبَهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يَطويانه، ولتقومن
الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لِقحته فلا يطعَمه، ولتقومن الساعة وهو يَليط حَوضه
فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أَكلته إلى فيه فلا يطعَمها " اللقحة الناقة. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي النفخة الثانية بعد الصعق وموت الخلائق كلهم، والصور قرن، أو بُوق
ينفخُ فيه الملك إسرافيل نفختين، الأولى يفزع منها الناس ثم يصعَقون، والثانية
يقومون بِها من القبور إلى أرض المحشر، وبينهما أربعون سنة؛ وفي سنن الترمذي ومسند
أحمد من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنعَمُ وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن،
متى يؤمر بالنفخ فينفُخ " قال
الترمذي: حديث حسن؛ (فَجَمَعْنَاهُمْ
جَمْعًا) أي إلى أرض المحشر للحساب والجزاء، (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ) أي أظهرناها وأبرزناها، وجهنم اسم علم لنار الآخرة (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ جمعنا الخلائق، ودخَل التنوين على "إذ" عوضا عن جملة
مفهومة من الكلام السابق (لِّلْكَافِرِينَ
عَرْضًا) أي عرضا فظيعا، حيث يسمعون لها تغيُّظا
وزفيرا، (الَّذِينَ كَانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي) أي أنّها مغطَّاة بغشاوة تمنعهم من النظر في آيات الله (وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) أي سماع الآيات المنْزلة والمواعظ، لتكبرهم واشمئزاز
قلوبِهم عن سماعها، (أَفَحَسِبَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي) أي من الملائكة والأنبياء والصالحين (مِن دُونِي أَوْلِيَاء) أي معبودين من دوني، أو يتولونَهم من دوني بالعَوْن والنصرة، والمعنى
أفحسبوا اتخاذهم أولياءهم من دوني أمرا هينا، لن يكون بعده عواقب، أو المعنى:
أفحسبوا ذلك نافعا لهم، والأول أظهر لقوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) أي أعددنا جهنم وهيأناها لهم منْزلا وضيافة، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) أي قل لهم يا محمد: هل تدرون من أعظم الناس خسارة يوم
القيامة، (الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي ضاع ما عملوه من الحسنات والأعمال الصالحة، كصلة الرحم والصدقة وغيرها
مما يعمله الكفرة، أو ما يعملون من الأعمال الباطلة على غير شريعة مشروعة، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) أي يعتقدون أنّهم على شيء، وأنّهم مقبولون محبوبون،
وهم في الحقيقة ليسوا على شيء، وذلك شأن الكفرة والمشركين وأهل البدع والضلالات
كما يشهده أولوا الألباب، (أُولَئِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) أي جحدوها وأنكروها (وَلِقَائِهِ) أي البعث والنشور (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) أي ضاعت بالكلية ولم تنفعهم في شيء (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) أي لا يجعل لهم اعتبار ولا يقدر لهم مقدار، فهم مُزدَرَوْنَ
محتَقرُون، وفي الحديث الصحيح: " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند
الله جناح بعوضة، وقال اقرءوا (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) " (ذَلِكَ)
أي ذلك الأمر، وهو بيان لمآلهم بسبب الكفر، (جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا) أي بكفرهم، وما مصدرية (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) أي واتخاذِهم الآيات والرسل شيئا يستهزئون به ويسخرون منه، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي الأعمال الصالحة (كَانَتْ لَهُمْ) أي عند ربّهم سبحانه (جَنَّاتُ
الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) أي منْزلا
وضيافة، وفي الحديث الصحيح: " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى
الجنة، فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنْهار الجنة " (خَالِدِينَ
فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) أي لا يطلبون عنها تحولا إلى غيرها من ملَل أو نحوه من تنغيص استمتاع،
لأنّها أطيب المنازل وأشرفها (قُل
لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي) أي مدادا تكتب به كلماته سبحانه (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) أي لنفد ماء البحر مع كثرته (قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) لأنّها غير متناهية (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) يعني ولو أمددنا بحار الأرض بمثلها، وفي سورة لقمان
"سبعة أبْحُر" (قُلْ
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) أي لا أدعي أن عندي شيئا من العلم غيرَ ما أوحاه الله إلي، فلست محيطا
بكلماته، (يُوحَى إِلَيَّ
أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أي من جملة ما يوحي إلي من كلماته أن تعبدوه وحده لا شريك له، (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ) يُستعمل الرجاء بمعنى الخوف، يعني فمن كان يخاف عقاب
ربه يوم يلقاه، أو الرجاء على أصله، والمعنى: فمن كان يرجو ثوابه وجزاءه الصالح يوم
يلقاه، (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً
صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) بأن يجعل شيئا من عمله الصالح لغير الله، كأن يقصد به
الرياء والسمعة، أو أن يجعل شيئا من عبادته لغير الله عز وجل من الطواغيت والأنداد.
انتهى بفضل
الله وحسن عونه تفسير سورة الكهف.
ويليها تفسير
سورة مريم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق