الجمعة، 21 أكتوبر 2016

سورة مريم 2

تفسير سورة مريم 16 قصة مريم عليها السلام: 
قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا، وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا *) [سورة: مريم - الآية: 16-29].

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) أي نبأها وقصتها، خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) أي انعزلت عن أهلها وأتت مكانا شرقيا من دارها، أو من بيت المقدس، أي اذكر لقومك ما جرى لها إذ انتبذت (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) أي استترت وتوارت منهم، (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) أي جبريل عليه السلام، (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) أي فتصور لها على صورة إنسان سوي الخلق كامل البنية، روي أنه تمثل لها في صورة شاب جميل أمرد وضيء الوجه، (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ) أي ألتجئ إليه أن يحفظني منك، لأنّها كانت خائفة منه إذ فاجأها في مكان منفرد عن أهلها، (إِن كُنتَ تَقِيًّا) أي إن كنت ممن يتقي الله فابتعد، فقد ذكرتك بالله، (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي ملك مرسل من ربك الذي تعبدين، والذي يتولى أمرك، وهو الذي استعذت به مني، ولست بشرا تتوقعين منه الشر (لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا) لأكون سببا في هبة غلام طيب لك، وقرئ: "لِيَهَب"، أي الله عز وجل، (قَالَتْ أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي بطريق الحلال (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي زانية (قَالَ كَذَلِكِ) أي كذلك الأمر،  يفعل الله ما يشاء لا راد لأمر الله، (قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي سهلٌ علي إيجاده بقدرتي من غير مباشرة بشر، (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي علامة يستدلون بِها على عظم قدرتنا (وَرَحْمَةً مِّنَّا) أي إحسانا عظيما بأن نجعل هذا الغلام نبيا من الأنبياء، يكون سببا لهداية الخلق (وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) أي كائنا لا محالة، لأنه مقدر مكتوب في اللوح، (فَحَمَلَتْهُ) وذلك بعد أن دنا منها جبريل ونفخ في جيب قميصها، فنفذت النفخة في جوفها (فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) أي اعتزلت به بعيدا عن أهلها، وذلك عندما أثقلت، فاستحيت وهربت حياء من قومها (فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي ألجأها الطلْق، وهو وجع الولادة، إلى جذع نخلة، والمراد نخلة معينة، وإن لم يعلمها المخاطبون بالقرآن (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا) أي قبل هذا الذي لقيت، استحياء من الناس، وخوف ألسنتهم (وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) أي شيئا تافها لا يُعتدُّ به (فَنَادَاهَا) أي جبريل (مِن تَحْتِهَا) أي من مكان أسفل منها، وقرئ "من تحتَها"، والمراد به جبريل، وقيل: الغلام الذي ولدته، أنطقه الله حين الولادة (أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي جدولا من ماء (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) أي حركيه يمينا وشمالا، إليك أي إلى جهتك (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) أي تُسقطْ عليك رطبا مجنيا، والرطب نضيج البُسر (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) أي طيبي نفسا ولا تحزني، وأصله من القر وهو البرد، لأن دمعة السرور باردة (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) أي صمتا وإمساكا عن الكلام، أي إن سألك أحد عن شأنك وما جرى لك فلا تجيبيه، (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) أي آدميا (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) أي ولدها (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) أي عظيما (يَا أُخْتَ هَارُونَ) هو رجل صالح في بني إسرائيل، يعنون أخته في الصلاح، وهذا منهم على سبيل التهكم بِها (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة، فكيف صدر هذا منك

الخميس، 20 أكتوبر 2016

1 سورة مريم

تفسير سورة مريم 1 ذكر زكرياء عليه السلام: 
قال تعالى: (كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا، وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا، فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً، قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا *) [سورة: مريم - الآية: 1-15].

(كهيعص) حروف تقرأ مقطعة: كاف ها يا عَيْن صاد، (ذِكْرُ) أي هذا ذكرُ (رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) عبده: منصوب برحمة، (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا) أي دعاه دعاء لم يسمعه أحد من الناس، وربما كان في جوف الليل، والدعاء حينها أقرب إلى الإجابة (قَالَ رَبِّ) بيان للنداء وتفسير له (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعُفتُ، وأسند الضعف إلى العظم لأنه عماد البدن (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) استعارة بالكناية، شبه شعر الرأس وانتشار الشيب فيه بالنار، وذكر لا زمها وهو الاشتعال (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي لم أكن خائبا يوما إذا دعوتك، أي أنك تستجيب دعائي كلما دعوتك (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) هم عصبة الرجل وأقاربه، أي أنه خاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته من بعد موته (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) أي عقيما لا تلد (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) أي من فضلك ولدا يتولى الأمر من بعدي (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي مرضيا عندك (يَا زَكَرِيَّا) أي قيل له، أو قال الله له، أي بواسطة الملك (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) أي شريكا له في ذلك الاسم، حيث لم يُسَمَّ أحد قبله بيحيى (قَالَ رَبِّ أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) أي عقيما لا تلد (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي قحول العظم ويبسه من الكبر، (قَالَ كذَلِكَ) أي الأمر كذلك، لا تبديل لأمر الله (قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي أوجده بقدرتي، لا يصعب شيء علي (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) أي لم تكن موجودا، أو المراد خلق آدم، لأن خلقك من خلقه، (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً) أي علامة تدل على تحقق البشارة (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) أي أن لا تقدر على تكليم الناس من غير بكَم أو خرس (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) أي من المصلى (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) أي أشار (أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أن تفسيرية، والمراد بالتسبيح الصلاة، أو نزهوا ربكم في هذين الوقتين عما لا يليق بجلاله (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) أي بِجد، أي فاستجاب الله دعاءه ووُلد له يحيى، وبلغ سنا يؤمر فيها، والمراد بالكتاب التوراة (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) عن ابن عباس: أنه أوتي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا) أي وآتيناه رحمة منا، أو آتيناه رحمة وشفقة على أبويه (وَزَكَاةً) أي بركة، أي جعلناه مباركا (وَكَانَ تَقِيًّا) أي متجنبا للمعاصي مطيعا لربه (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) كثير البر بِهما والإحسان إليهما (وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا) أي متعاليا عن الناس (عَصِيًّا) أي لربه أو عاقا لوالديه (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي الأمان والسلامة من كل الآفات (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي يوم خرج إلى الدنيا ويوم يغادرها، ويوم يبعث يوم القيامة.

الخميس، 6 أكتوبر 2016

الحزب اللاثون تفسير سورة الكهف

تفسير الكهف ما جاء في فضل سورة الكهف: 
فضل سورة الكهف: روى مسلم من حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف، عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ ". وفي رواية له: " مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ ". وروى الحاكم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ ". وفي رواية أخرى: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَمَا أُنْزِلَتْ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ ".
تفسير الكهف 1 ذكر نعمة القرآن وتسلية فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه: 
قال الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا *) [سورة: الكهف - الآية: 1-8].
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) معناها الثناء على الله بكل المحامد وصفات الكمال والجلال والجمال (الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ) أي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما قال على عبده، لأن العبودية لله عز وجل أشرف المنازل، أو للتنبيه على أنه واحد من عباده فاختاره منهم حسب ما اقتضته حكمته سبحانه، ولا مُعَقِّبَ لحكمه (الْكِتَابَ) أي القرآن الذي هو أشرف الكتب وأفضلها على الإطلاق، (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) العوج: الميل والانحراف، أي لم يجعل للكتاب شيئا من العوج، باختلال في اللفظ أو اختلاف في المعنى، أو اشتماله على ما ليس بحق (قَيِّمًا) أي مستقيما، أي في تكاليفه وشرائعه، فلا إفراط ولا تفريط، فلم يكلِّف العباد ما ليس لهم به طاقة، ولم يُقصِّر في إهمال ما يحتاجون إليه، (لِّيُنذِرَ) أي العبادَ عامة، أو الذين كفروا خاصة، بدليل ذكر البشارة بعده، والإنذار الإعلام مع تخويف (بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ) أي عذابا شديدا من عنده، وهو عذاب النار، إذا لم يستجيبوا لما يدعوهم إليه (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي الذين صدقوا أخباره (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) أي الأعمال الصالحة (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) وهو الجنة، وما فيها من النعيم المقيم (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) أي مقيمين في الأجر لا ينتهي مُقامُهم فيه، والمراد في الجنة المفهومة من الأجر (وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) وهم مشركو العرب حيث زعموا أن الملائكة بنات الله، وكذلك النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله، واليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، وخصص الإنذار بِهذ الطائفة  بعد تعميمه أولا، لفظاعة حالهم في الكفر، (مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي ما لهم علمٌ بالذي يقولون، ولم يقرؤوه في كتاب، وليس عندهم به برهان، وإنما هو فقط افتراء تابع للأهواء، و"من" هنا تزاد لتأكيد النفي، وللدلالة على العموم والاستغراق، أي ليس لهم بذلك شيء من العلم (وَلا لِآبَائِهِمْ) أي الذين ورِثوا عنهم هذه الأباطيل (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) أي عظُمت كلمتُهم كلمةً شنيعة في الكفر، تنطق بِها أفواههم، وإنما قل: تخرج من أفواههم، للتنبيه على أنّهم ينطقون بشيء يحسبونه هيّنا، ولكنهم لا يدركون أنه عظيم عند الله، وفي الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ " (إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) أي ما ينطقون إلا بالكذب، و"إنْ" نافية بمعنى ما (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ) أي مهلِكٌ نفسك أو قاتلها، ولعل هنا تفيد التوقع، وأصلها للترجي، (عَلَى آثَارِهِمْ) أي حزنا عليهم، كأنه يتبع آثارهم وهو حريص على هدايتهم (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ) أي العظيم الشأن، وهو القرآن (أَسَفًا) أي من الأسف والحزن الشديد تُهلك نفسك؛ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ) أي من الحيوانات والنباتات وغيرها (زِينَةً لَّهَا) أي للأرض ولأهلها الذين يتمتعون بما عليها من الزينة (لِنَبْلُوَهُمْ) أي لنختبرَهم ولنعلم بالاختبار (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي من يتخذها وسيلة إلى مرضاة الله عز وجل، ومن يتخذها وسيلة إلى الاستمتاع بالشهوات كما تستمتع البهائم، فنجازي كلاًّ حسب عمله، و"أيُّهم" و "أحسنُ" هما في الأصل مفعولان، ولكن عُلِّق عنهما العمل هنا، من أجل أن "أيّ" اسم استفهام، ولا يجوز أن تقول: علمت أيَّهم أحسنَ عملا، كما تقول علمت زيداً مريضاً، (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا) أي من الزينة التي اغترّ بِها المغترُّون (صَعِيدًا جُرُزًا) أي ترابا لا نبات فيه، والصعيد وجه الأرض، يقال: جُرزت الأرضُ فهي مجروزة: إذا ذهب نباتُها بقحط أو جراد.
تفسير الكهف 9 ذكر قصة أهل الكهف: 
قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا، لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً، لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا *) [سورة: الكهف - الآية: 9-16].
(أَمْ حَسِبْتَ) الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمراد غيرُه، ممن يتأتى من الحسبان والظن، و"أم" منقطعة بمعنى بل، أي بل أحسبتَ (أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) الكهف هو النقب المتسع في الجبل، والرقيم: روي أنه اسم واد، وروي أنه اسم للجبل الذي به الكهف، وروي أنه لوح من حجارة كتبت فيه أسماؤهم، والله أعلم، (كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) يعني ليس أمرُهم عجيبًا في قدرتنا، فإن خلق السموات والأرض بما فيهما من الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة، أعظم مما وقع من أخبار أصحاب الكهف، (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) "إذ" منصوب بـ"اذكُرْ" أو نحوه محذوفا، والفتيةُ جمع فتًى، والمراد بِهم أصحاب الكهف، لَجَؤوا إليه فرارا بدينهم، وإنما أظهرهم بلفظ الفتية للتنبيه على أنّهم  في زمان الفتُوة، وروي أنّهم كانوا شبابا من أبناء أشراف القوم (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً) أي تفضل علينا برحمة عظيمة من عندك، (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) أي يسر لنا من أمرنا الذي نحن فيه من مهاجرة الكفار في الدين، اهتداءً للمطلوب، (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) أي أنَمناهم إنامة ثقيلة، حتى لا يسمعوا الأصوات، والكلام كناية، والمفعول محذوف تقديره ضربنا على آذانِهم حجابا يمنعهم من السماع (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) أي ذوات عددٍ، أو معدودة، (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ) أي أيقظناهم من نومهم (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) أي أحصى للذي لبثوه أمدًا، وأمدا تمييز، و"أي" و "أحصى" مفعولان لـ"نعلم" عُلِّق عنهما العمل، لأن "أي" اسم استفهام. واختلف في المراد بالحزبين، فقيل: الله سبحانه والخلق، وروي أيضا أن الحزبين الفتية والملوك الذين حكموا البلاد، وروي أيضا أنّهما من قوم أهل الكهف، أحدهما مؤمن والآخر كافر، وروي أيضا أنّهم اليهود والنصارى، والله أعلم، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ) أي متلبسا بالحق (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) أي زدناهم إيمانا على إيمانِهم واهتداء على هداهم، وكانت قصتهم على ما روي في عقد الملك دِقيانوس، وكان قد عتا في الأرض فسادا وقاتل مخالفيه من المتمسكين بدين المسيح، فكان يخير الناس بين القتل وعبادة الأوثان، ولما علم أولئك الفتية بأمر الملك، اتخذوا لهم معبدا يعبدون فيه ويتضرعون فيه إلى الله، فعلم بِهم قومهم، فوَشوا بأمرهم إلى الملك، فاستحضرهم بين يديه، فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي ثبتنا قلوبَهم على الحق، فلم تزعزعها العواصف، والربط استعارة بالكناية من ربط الدابة وغيرها (إِذْ قَامُوا) أي عندما التقوا وتعارفوا وتآلفت قلوبُهم بالإيمان، أو قاموا بين يدي الملك (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا، لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) أي قولا ذا شطط، والشطط البعد عن الحق، أو الكذب، (هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً) أي اتخذوها من الحجارة وعبدوها (لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) أي هلا يأتون بحجة ظاهرة على ما يدَّعون، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي لا أحد أعظم ظلما مِمَّنْ كذب على الله، بادعاء الشريك له في العبادة (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) أي وإذ قد اعتزلتم القوم واعتزلتم عبادة معبوداتِهم الباطلة، إلا عبادة الله عز وجل (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) أي فالتجئوا إلى مكان تخلصون لله فيه العبادة حيث لم تتمكنوا من إخلاص العبادة له وسط القوم (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته) أي يبسط ويوسع عليكم رحمته وإحسانه (ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) أي ويسهل لكم من أمركم ما ترتفقون به وتنتفعون.
تفسير الكهف 17 ذكر قصة أهل الكهف: 
قال تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ، ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ * وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ، لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ، قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ، وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا* إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ، وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا، إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ، فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ، قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا *) [سورة: الكهف - الآية: 17-21].
(وَتَرَى الشَّمْسَ) المخاطب هنا عام، والمراد الإخبار بحال الكهف الذي أووا إليه، وعن حالهم إذْ أووا إليه، (إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ) أي تميل عن باب الغار إلى جهة اليمين، يعني فلا تصيبهم، و"تَزَاور" أصلها تتزاور، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، وقرأ نافع وغيره: تزَّاورُ، بإدغام التاء في الزاي، أو من ازَّاور يزَّاورُ، (وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) أي تعدِل عن باب كهفهم إلى جانبه الأيسر (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ) أي مكان متسع داخل الكهف، بحيث يصيبهم الهواء، ولا يصيبهم حر الشمس ولا يتضررون بضيق الكهف، (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أي من آيات قدرته، حيث هداهم إلى هذا الغار، (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) يعني من يهده الله بتوفيقه للتأمل في آياته والاعتبار بِها فهو المهتدي، وفيه تنبيه على أن هؤلاء الفتية إنما اهتدوا بفضل الله عليهم، و"المهتد" أصله المهتدي، حذفت ياؤه كما تحذف ياء المنقوص المعرف أحيانا، (وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا) يعني لن تجد له من يتولاه ومن يرشده إلى الطريق إذا صرفه الله عنها، وهذه الآية صريحة في أن الهداية والضلال من الله سبحانه، وأن اختيارنا تابع لما يسره الله لنا (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) يعني من يراهم يظن أنّهم أيقاظ، من كثرة تقلبهم، ويدل عليه ما بعده، أو من انفتاح أعينهم، وإنما لم تنطبق أعينهم لئلا يسرُع إليها البِلى، فلذلك أبقى الله أعينَهم ظاهرة للهواء، (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) أي جهة اليمين وجهة الشمال وهم نائمون، لكي لا تأكل الأرض أجسادَهم، (وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي بالفناء، وهو باب الكهف، وهذا الكلب على ما روي كلب راع اتبعهم، (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا) يعني لو شاهدت حالهم في تقلبهم لفررت من رؤيتهم (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) ولَمُلئَ صدرُك خوفا وفزعا من ذلك المشهد (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ) كما أنمناهم سنين بقدرتنا أيقظناهم وبعثناهم بعدها بقدرتنا (لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ) أي ليسأل بعضُهم بعضا عمَّا جرى لهم، فيترتب عليه ما شاء الله من الحكم البالغة، واللام على الراجح للعاقبة وليست للتعليل (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) أي واحد من أهل الكهف عندما استيقظوا، أي كم أقمتم نائمين؟ (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) يعني أو جزءاً من يوم، وذلك على ما روي أنّهم ناموا غدوة، واستيقظوا في  آخر النهار، وإنما قالوا ما قالوا لأنّهم ربما لم يلاحظوا العلامات أولَ ما استيقظوا، ولا زالت غشاوة النوم على أعينهم، (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) قال بعضهم الآخر هذا لما نظر إلى العلامات التي تدل على طول مكثهم، (فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ) أي بدراهمكم (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي ليشتري لنا الطعام (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا) أي أطيب طعاما، والمراد: الحلال، لأنّهم على ما روي كانوا يذبحون للطواغيت، أو المراد أجود الطعام، لأن الردئ لا بركة فيه، و"أي" و "أزكى" في الأصل مفعولان لننظر، ولكن عُلِّق عليهما العمل هنا، لأن "أي" اسم استفهام (فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ) أي من الطعام الزكي (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي وليستَخْفِ ما استطاع في ذهابه وإيابه (وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) أي أحدا من أهل المدينة، لأنّهم كافرون، وهم قد هربوا منهم فرارا بدينهم، (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي إن يطَّلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم (يَرْجُمُوكُمْ) أي بالحجارة كما هو الظاهر، وقيل بالسب والشتم (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي في دينهم (وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) أي إن عدتم في ملتهم فلن تفوزوا بخير ولن تنجوا من شر، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أنّهم جهلوا ما لبثُوه من السنين، وظنوا أن الناس الذين تركوهم بالمدينة ما زالوا أحياء، ولم يظنوا أنّهم لبثوا سنين في نومتهم، وروي أنّهم أرسلوا أحدهم فانطلق، فجعل يُنكر تغير معالم المدينة، وينكر وجوهَ الناس، ورأى الإيمان ظاهرا بالمدينة، حيث كان في ذلك الزمان ملك مسلم، فانطلق إلى رجل ليشتري الطعام، فلما نظر الرجل إلى دراهمه أنكرها، حيث كانت من ضرب دقيانوس، فقال له: أو ليس ملكَكم دقيانوس؟ قال: لا، بل ملكنا فلان، فتداولَها أهل المدينة فيما بينهم ويقولون: لعل هذا وجد كنْزًا، فسألوه عن أمره ومن أين له هذه الدراهم؟ لعله وجدها من كنْز؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة، وعهدي بِها عشية أمس، وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى الملك، فسأله عن شأنه وخبره، حتى أخبرهم بأمره وأمر الفتية، فلما أعلمهم بأمرهم قاموا معه إلى الكهف، فدخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم وتوفاهم الله عز وجل. والله أعلم، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) أي كما أويناهم إلى الكهف، وأنمناهم فيه، أطلعنا الناس عليهم (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ليعلموا بما عاينوا من أحوال هؤلاء الفتية أن وعد الله ببعث الناس من القبور حق (وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا) أي وأن القيامة قائمة، لا ينبغي لأحد أن يرتاب أو يشك فيها (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي يتخاصمون ويتجاذبون في أمر البعث، وكانوا قد اختلفوا في أمر البعث، فمنهم من أقر به، ومنهم من أنكره، ومنهم من قال: تبعث الأرواح دون الأجساد، ومنهم من قال: تبعث الأرواح في أجسادها، وهو الحق، فبعث الله لهم هؤلاء الفتية، آية باهرة دالة على تحقق البعث، و"إذ" متعلقة بـ"أعثرنا"؛ وقيل أيضا: إنّهم كانوا يتنازعون في أمر الفتية وما جرى لهم، وكانوا قد تلقوا أخبارهم عمن سبقهم، ويجوز أن يكون المعنى أيضا: يتنازعون بينهم أمر الفتية وما يصنعون لهم بعد أن عثروا عليهم، ثم توفاهم الله، (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا) أي قالت طائفة منهم: ابنوا على كهفهم بنيانا وسدوا عليهم باب كهفهم وذروهم على حالهم، (رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي بحقيقة شأنِهم (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ".
تفسير الكهف 22 ذكر قصة أهل الكهف: 
قال تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم، مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا * وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ، وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ، وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا، لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ، مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [سورة: الكهف - الآية: 22-26].
(سَيَقُولُونَ) يعني أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الخائضين في شأن أصحاب الكهف (ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أي رميا بالخبر الغائب الذي لم يطَّلعوا عليه، وإنما هو ظن فقط، واستعير رمي الغرض بالحجارة التي تصيب أو لا تصيب، للقول بغير علم، (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) والواو التي في قوله: "وثامنهم" فائدتُها توكيد اتصاف الموصوف بالصفة، وهي تشير إلى أن قائلي هذا القول، قالوه عن علم وطمأنينة نفس، بخلاف السابقين، فلذلك لم يُتبعه بقوله "رجما بالغيب" كما في القولين السابقين (قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم، مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) روى ابن جرير بإسناد حسن عن ابن عباس قال: أنا من القليل، كانوا سبعة، ويجوز أن يكون المراد بالقليل: قلة من أهل الكتاب (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ) أي فلا تجادل الخائضين في أمر أهل الكهف (إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا) وذلك بالاقتصار على ما ذكره الوحي من غير تجهيل لأحد، فإن الأمر في معرفة عدتِهم لا يترتب عليه كبيرُ فائدة (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا) أي لا تسأل أحدا من الخائضين في شأن أولئك الفتية (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) إرشاد له عليه الصلاة والسلام إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب، وذلك أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قصة أصحاب الكهف وعن الروح وعن ذي القرنين، فقال لهم: " غدا أجيبكم "، ولم يستثْنِ، فتأخر عنه الوحي خمسة عشر يوما، (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي قل إن شاء الله إذا نسيتها متى ما تذكرتَها (وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) أي إذا سئلت عن شيء، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، وقيل أيضا: معناه أرجو أن يهديني ربي ويوفقني بتأييدي بآيات أخرى أقوى حجة على المعاندين من خبر أصحاب الكهف، ورشدا: أي إرشادا للناس إلى الحق (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) أي نائمين (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) أي تسعَ سنين وثلاثمائةِ سنة، وإنما قال: وازدادوا تسعا، لأن مقدارَ ثلاثِ مائة سنة بالسنة الشمسية يساوي تسعَ سنين وثلاثمائةِ سنة بالقمرية، فلهذا قال بعد الثلاثِمائة: وازدادوا تسعًا. (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) قل للخائضين: الله أعلم بما لبثوا لا أنتم، وقد أخبر أنّهم لبثوا تسعَ سنين وثلاثمائةِ سنة، فلم يبقَ لخائض أو مجادل كلام (لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي يعلم ما غاب من أحوالهما وأحوال أهليهما (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) صيغتا تعجب أي ما أبصرَه وما أسمعَه، والمراد أنه سبحانه بصير بالخلق وعليم بِهم، وليس المراد التعجب، (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ) أي ليس لأهل السموات والأرض ولي يتولى أمورهم من دون ربّهم سبحانه، (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) أي لا يشرك في أمره وفي قضائه أحدا كائنا من كان. والمراد تبكيت المشركين الذين يشركون به في العبادة معبودات باطلة لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، وهم يعلمون أن مالك أمرهم الوحيد هو رب السموات والأرض.
تفسير الكهف 27 الاستمساك بالقرآن، وتلاوته ومجالسة المؤمنين: 
قال تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ، فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ، إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا، وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ، بِئْسَ الشَّرَابُ، وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً *أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ، نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا *) [سورة: الكهف - الآية: 27-31].
(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ) المراد أمرُه عليه الصلاة والسلام أن يواظبَ على تلاوة القرآن، وأن لا يكترث بخوض الخائضين وجدال المجادلين (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) أي إن الله ناصر دينه ومظهر الحق، ولا يستطيع أحد أن يبدل كلماته سبحانه (وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا) أي لن تجد من تلتجئ إليه عند نزول البلاء سواه، والملتحد هو الملجأ، أي فعليك أن تلتجئَ إلى ربك وتعتصم به، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) أي احبس نفسَك مع المؤمنين الذين يذكرون ربّهم في هذين الوقتين، والمراد صلاتا الغداة والعشي، قبل أن تفرض الصلوات الخمس، وذلك أن أشراف قريش طلبوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يجالسهم، ويترك مجالسة ضعفاء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب وخباب، وأن يُفردهم بمجلس على حدة، ولا يجالسهم مع أولئك الضعفاء، فنهاه الله عن ذلك فقال: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي" (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يبتغون رضاه لا الرياء والسمعة (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) أي لا تتجاوزهم عيناك وتصرِفا نظرَهما إلى أهل الدنيا، وتطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة، (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي ما زينت به من الشهوات، (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا) أي جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا، أي لا تطعه في طرد الفقراء من مجلسك، وفي غير ذلك مما يُسخط الله، وفيه تنبيه على أن غفلتهم عن الذكر هي التي جعلتهم يرون لأنفسهم شرفا على أولئك الضعفاء، فيأنَفون من مجالستهم (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) أي ما تَهواه نفسه من خسيس الشهوات (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) أي سفها وتفريطا وضياعا، يجوز أن يكون من الإفراط بمعنى الإسراف، ومن التفريط بمعنى التقصير، (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ) أي قل للمعرضين: الذي أتلوه عليكم هو الحق من ربكم، أو الحق مُنْزل إليكم من ربكم (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) يعني من أراد أن يومن فليؤمن، ومن أراد أن يكفر فليكفر، فكل واحد سيجزى على عمله، وفيها وعيد شديد للكافرين، (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا) أي أعددنا لهم نارا عظيمة، كما تقتضيه النكرة (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) أي سورها الذي يحيط بِها، وفي الحديث: عن رسول الله صلى الله عليه ووعلى آله وسلم أنه قال: " لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة "، أخرجه أحمد والترمذي، (وَإِن يَسْتَغِيثُوا) أي من العطش والكرب (يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ) أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه ووعلى آله وسلم أَنَّهُ قَالَ: كَالْمُهْلِ قَالَ: كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قَرُبَ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ "، وقال ابن عباس: ماء غليظ كدُردِيّ الزيت، وقيل أيضا: النحاس المذاب، وأيا ما كان فهو ماءٌ (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا قُدِّم ليُشرب، من شدة حرارته (بِئْسَ الشَّرَابُ) أي ما يغاثون به من المهل (وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) أي ساءت جهنم مكانا لارتفاقهم واستراحتهم، والمرتفق: المُتكَأ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أي لا نضيع أجر المحسنين منهم، بل نجزيهم على أعمالهم خير الجزاء، (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة، أي يقيمون فيها متنعمين فيها، (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) أي تجري من تحت غرفهم أنْهار الماء وغيره (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ) الأساور: جمع أسورة، وهو جمع الجمع، والمفرد: سوار، وهو ما يجعل في الذراع من الحلي (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) السندس: رقيق الديباج، والإستبرق: غليظه، والديباج: الحرير (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ) جمع أريكة وهي السرير (نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) أي حسنت الجنات مكانا لارتفاقهم، ونِعْمَتْ مستقرا ومقاما.
تفسير الكهف 32 وعيد من كفر نعم الله بالسلب، قصة صاحب الجنة: 
قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ، وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا، وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ، قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ، إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ، هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا *) [سورة: الكهف - الآية: 32]
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ) هما رجلان من بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر (جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا) وهو الكافر (جَنَّتَيْنِ) أي بستانين (مِنْ أَعْنَابٍ أي من أشجار العنب، وهي الكروم، والواحدة كَرمة (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل في جوانبهما محفوفة بِهما (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) فهما جامعتان للفوكه والأقوات (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا) أي ثَمرها (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي ولم تنقص من ثمرها شيئا من النقص، (وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا) أي فيما بين الجنتين (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي أنواع المال، وفسر بثمر الشجر، وهو غير مناسب للسياق، وقرأ نافع وغيره: "ثُمُرٌ"، أي أموالا كثيرة، (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ) أي المؤمن (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) أي يراجع معه الكلام (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا) أي خدما وأعوانا وأولادا (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) أي جنتيه، وعبر بالإفراد إما لأنه لا يدخلهما جميعا في وقت واحد، أو لأنّهما جنته في دنياه ولا جنة له سواه (وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) حيث عرّضها لغضب الله بكفر النعمة (قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) أي أن تَهلك (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أي القيامة (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي) أي بالبعث (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) أي مرجعا وعاقبة، يعني أنه إذا كانت القيامة ستقوم، فمن أعطاه هذه الجنة في الدنيا يعطيه أفضل منهما يوم القيامة، وقرأ نافع: "منهُمَا" (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ) لأن التراب هو أصل الخلق، أو لأن آدم إذ خلق من تراب كان لكل فرد من أبنائه نصيب من خلقه (ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) وهي المني (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أي عدلك وجعلك مستوي الخلق رجلا (لَّكِنَّا) أي لكن أنا (هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) والشرك وإن لم يأت له ذكر في الكلام، لكنه يفهم منه، لأن كونه ينكر الساعة دليل على أنه كافر، إما بشرك أو غيره (وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ) أي هلا قلت اعترافا بالنعمة وشكرا لها، واعترافا بالعجز: (مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ) أي الأمر ما شاء الله، أي أن ما أراه بمشيئته وقوته، وعلى هذا فيستحب للعبد أن يقول هذا إذا رأى من ماله أو ولده ما يعجبه، (إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ) أي إن رأيتني فقيرا قليل المال والولد فإني أرجو من الله أن يرزقني بإيماني جنة خيرا من جنتك، أي في الآخرة، (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء) أي ويرسل على جنتك عذابا أو نارا من السماء فتهلكها (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا) أي أرضا لا نبات عليها، وأصل الزلق الزلل في المشي (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا) أي غائرا في الأرض (فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) أي في رده واستخراجه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أي أهلكت أمواله كلها، من إحاطة العدو: أي غلبته، ثم استعمل في كل هلاك (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) كناية عن الندم، لأن النادم غالبا ما يقلب كفيه، يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى (عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا) أي متحسرا على ما أنفق فيها من الأموال (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي ساقطة أشجارها على العروش، والعروش ما يصنع من الأعمدة لتوضع عليه الكروم (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) أي في عبادته (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ) أي جماعة (يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ) أي ينقذونه من الهلاك الذي حل بجنته، فالمنقذ في الحقيقة هو الله (وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا) أي ليس له قوة ينتصر بِها (هُنَالِكَ) حيث يهلك الله من يهلك من الجبابرة (الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) أي النصرة له سبحانه، لا يقدر عليها أحد سواه، ينصر أولياءه، وينتقم من الظالمين، (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) أي عاقبة لأوليائه الذين اعتصموا به ولم يتكبروا عليه بالذي أنعم به عليهم، وقرأ الأكثر "عُقُبا".
تفسير الكهف 45 ذم الدنيا والحث على التزود ليوم القيامة: 
قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا، لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا، وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً * مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا *) [سورة: الكهف - الآية: 45-51].
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي اذكر لهم ما يشبه الدنيا في زهرتِها ونضارتِها وسرعة زوالها، لئلا يغتروا بِها (كَمَاء) أي هي كماء (أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ) أي بسبب الماء تكاثف النبات واشتبك وخالط بعضُه بعضًا (فَأَصْبَحَ) أي صار ذلك النبات المتكاثف بعد بَهجته ونضارته (هَشِيمًا) أي يابسا متفتتا (تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) أي تفرقه وتطيِّره في كل مكان (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا) أي قديرا على كل شيء، ومن ذلك أن يهَب من الدنيا لمن يشاء وينْزعها ممن يشاء (الْمَالُ وَالْبَنُونَ) أي الأبناء (زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي التي يفتخرون بِها، وهي مع ذلك مُعرَّضة للزوال (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) أي الكلمات أو الأعمال الصالحة التي يبقى ثَمَرتُها وثوابُها، أخرج أحمد والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات"، قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ) أي في الآخرة (ثَوَابًا) أي أجرا (وَخَيْرٌ أَمَلاً) حيث ينال بِها صاحبُها نعيم الآخرة، يعني أن هذه الباقيات خير أجرا، وخير أملا مما يُؤَمله الذين غرتْهم الحياة الدنيا، (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) أي اذكر ذلك اليوم، وهو يوم القيامة، حيث تُقلع الجبال وتسير كمرِّ السحاب (وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً) أي ظاهرة، تظهر كلُّها أما عين الناظر لزوال الجبال (وَحَشَرْنَاهُمْ) أي جمعنا الأولين منهم والآخرين إلى أرض الموقف، بعد أن بعثناهم من القبور، (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) أي لم نترك أحدا، من دُفن منهم في القبور، أو احترق فصار رمادا، أو أكلته السباع، (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) أي مصطفين صفوفا، أو صفا واحدا، ويقال لهم: (لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي كما خلقناكم في الدنيا بعثناكم الآن (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) أي ليس إنكاركم للبعث من جهة عدم إمكانه لأن من خلق أولا قادر على الإعادة، ولكن كذبتم بالحق، وكفرتم بالخالق، وظننتم أنكم لن تعودوا إلينا ولن تحاسبوا، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) أي كتاب الأعمال، أي وضع في الميزان، أو في الأيدي فقابضٌ باليمين وقابضٌ بالشمال، أو المراد إحضار الملائكةِ الكتبَ، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي خائفين مما سُطِّر فيه من جرائمهم وذنوبِهم (وَيَقُولُونَ) أي وهم يطَّلعون على ما فيه (يَا وَيْلَتَنَا) أي يا هلاكنا (مَا لِهَذَا الْكِتَابِ) أي أيُّ شيء له، أي ما شأنه (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي من المعاصي (إِلاّ أَحْصَاهَا) أي عدَّها، وتضمنها (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) أي مسطَّرا في الكتاب  (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) أي فيعاقبه بغير عمله أو ينقص من حسناته (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي اذكر ذلك (فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) وهذا دليل على أن إبليس ليس ملَكا، وإنما كان فيهم وليس منهم، وهو مشمول بالأمر بالسجود، فيصح استثناؤه، وفي الحديث الصحيح: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار" (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي خرج عن طاعته (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) الفاء عاطفة، وأصل الكلام: فأتتخذونه، ولكن لما كانت همزة الاستفهام لها حق الصدارة صار: أفتتخذونه (وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء) أي تتولونَهم وتطيعونَهم، (مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) أي أعداء (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) حيث وضعوا العبادة في غير موضعها وجعلوا طاعة إبليس بدلا من طاعة ربّهم عز وجل (مَا أَشْهَدتُّهُمْ) أي إبليسَ وذريتَه (خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ) يعني لم يَشهدوا خلق السموات والأرض ولم أُشرِكْهم في الخلق، بل خلقت السموات والأرض قبل أن أخلقهم، ولم أُشهدهم خلق أنفسهم لما خلقتُهم، أو لم أُشهد بعضَهم خلقَ بعض، (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) أي الشياطين الذين يضلون الناس (عَضُدًا) أي معينا لي على الخلق، واستُعير العضد للمعين؛ والحاصل لم أُشهدهم الخلقَ ولم يعينوني بشيء، فلماذا تعبدونَهم وتطيعونَهم من دوني، وأنا الخالق الذي أستحق العبادة والطاعة؟
تفسير الكهف 45 تذكير الْمعرضين بما سيحُل بِهم يوم القيامة: 
قال تعالى: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ، وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ، وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا *) [سورة: الكهف - الآية: 52-59].
(وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ) أي ذكّرْهم بذلك اليوم، أي نادوهم الآن ليشفعوا لكم، وليُنقذوهم مما أنتم فيه، (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي الذين اتخذتموهم آلهة، وزعمتم أنّهم ينفعونكم أو يشفعون لكم من دوني، (فَدَعَوْهُمْ) أي فنادوْهم (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) إذ لا يُمكن ذلك (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا) أي مَهلِكا، وهو النار التي يشتركون فيها، من وبَق إذا هلك، قال قتادة: وادٍ في جهنم (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) أي أبصروها، وذكَرهم بوصف الإجرام لزيادة تبكيتهم وذمهم وإبعادهم، (فَظَنُّوا) أي أيقنوا وعلموا (أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا) أي واقعون فيها مخالطون لها (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا) أي مكاناً ينصرفون إليه ليَنجُوا منها (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ) أي كرّرنا فيه الأمثال والمواعظ ليتبعوا الحق، ولكنهم لم يفعلوا (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أي منازعة وخصومة ومُماراةً بالباطل (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا) أي من الإيمان (إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى) أي القرآن الذي يهديهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) أي مما أسلفوه من الذنوب ويتوبوا إليه (إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) أي سنة الله في الأولين، وهي استئصالهُم وإهلاكهم في الدنيا (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً) أي عيانا ومقابلة، أي العذاب الذي ينتظرهم يوم القيامة فيُعايِنوه في الدنيا، أي لم يَمنعهم من الإيمان إلا طلبُهم أن  يأتيهم العذاب، فلذلك كانوا يستعجلون النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب، كما ذكر الله عنهم: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، وتحرير المعنى: لم يمنعهم من الإيمان إلا العناد، فبدلَ أن يستجيبوا فينجُوا من العذاب، يُعانِدون فيستعجلون العذاب، فيكون عنادُهم مانعا لهم من الإيمان (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ) أي للمؤمنين والمطيعين بالثواب (وَمُنذِرِينَ) أي للكفرة والعصاة بالعقاب، بمعنى: يبشرون وينذرون، وليس عليهم حرَج في إعراض من أعرض بعد ما بلَّغوا (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي ليَمحُوا الحق ويُزيلوه بالباطل (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا) أي من العذاب (هُزُوًا) أي سخرية واستهزاء، وقرأ الأكثر: "هُزُؤاً" بالهمز (وَمَنْ أَظْلَمُ) الاستفهام بمعنى النفي: أي لا أحدَ أظلمُ (مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا) أي عن سماعها وتدبرها والاتعاظ بِها (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أي غفَل عما عمِله من الآثام، ولم يتفكر في عاقبة أمره (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي أغطِية (أَن يَفْقَهُوهُ) التقدير على رأي أهل البصرة: كراهةَ أن يفقهوه، وعلى رأي الكوفيين: لئلاَّ يفقهوه (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) أي صمَما وثقلا، أن يسمعوه أو يفققهوه، وهذه هي العلة الحقيقة لإعراضهم، أن الله طبع على قلوبِهم وأصمّ آذانَهم، (وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) أي لن يهتدوا أبدا، إذْ قد طُبع على قلوبِهم وصُمَّت آذانُهم، (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) أي ذو الإحسان العظيم إلى عباده، (لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا) أي من السيئات (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) أي ولم يُمهلْهم لَحْظةً، لعِظَم ما يقترفونه من الكفر والإجرام، (بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ) وهو يوم القيامة، أو عذاب الخزي الذي يَحُل بِهم في الدنيا، كالذي حل بِهم يوم غزوة بدر، (لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً) أي ملجأً يلجؤون إليه (وَتِلْكَ الْقُرَى) وهي القرى التي ضرب الله بِها الأمثال لكفار قريش: كعاد وثمود، وقوم لوط وأصحاب الأيكة، (أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم) أي لهلاكهم، وقرأ الأكثر: "لِمُهْلَكِهِمْ" أي لإهلاكهم، (مَّوْعِدًا) أي وقتا لا يتأخرون عنه ساعة؛ والمقصود: فليحذَروا أن يَحُل ما حل بأهل القرى من الْخِزي والنَّكال.
تفسير الكهف 60 قصة موسى مع الخضر، وفضل الرحلة في طلب العلم: 
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا، قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ، قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ، قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا *) [سورة: الكهف - الآية: 60-78].
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى) أي اذكر إذ قال موسى (لِفَتَاهُ) وهو يوشَعُ بن نون، كما في الصحيح (لا أَبْرَحُ) لا أزال أسير، على أن برِح ناقصة، أو لا أترك ما أنا مهتم به من ملاقاة ذلك العبد الصالح، على أن برح تامة (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) وهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب، (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) أي أو أمضي زمنا طويلا من السير، حتى أتيقن أنني لا ألقاه بعده، ويجوز أن تكون "أو" بمعنى: إلا أن، والمعنى: إلا أن أمضي زمنا طويلا أتيقن بعده أنني لن ألقاه. وكان سبب ذلك على ما الصحيحين من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن موسى رسول الله عليه السلام، ذكَّر الناس يوما، حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب، ولّى، فأدركه رجل فقال: أيْ رسولَ الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتَب عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، وأوحى إليه أن عبدا من عبادي بِمجمع البحرين هو أعلمُ منك، قال: يا رب وكيف لي به؟ قال له: احمل حوتا في مِكْتل، فإذا فقدته فهو ثم، فانطلق وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحملا حوتا في مِكتل، حتى كانا عند الصخرة وضعا رؤوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل، فاتخذ سبيله في البحر سربا "، قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا) وذلك كما في الصحيحين أن موسى قال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: فبينما هو في ظل صخرة، إذ تضرَّب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جِرية البحر، قال تعالى: (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا) أي مسلكا كالسرب وهو النفق (فَلَمَّا جَاوَزَا) أي مجمع البحرين (قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا) وهو الحوت الذي حملاه ليأكلاه، والغداء: طعام الغُدوة، وهي أول النهار، (لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) أي تعبا وإعياءً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به " (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ) أي من أجل النوم، (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) حيث أحياه الله فتحرك واضطرب ودخل في البحر (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ) وقرأ الجمهور: "وما أنسانيهِ" أي ما أنساني أمر الحوت إلا الشيطان (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل من الهاء، أي ما أنساني أن أذكر لك أمرَ الحوت إلا الشيطان، (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) أي اتخاذا عجبا، أو سبيلا عجبا، أو المعنى: أعجبُ عجبا، (قَالَ ذَلِكَ) أي فقدان الحوت (مَا كُنَّا نَبْغِ) أي نبغي، أي ذلك ما نريده، وذلك أنّهما حملا الحوت ليأكلاه، ولكن أخبرهم المولى أن علامة ذلك المكان هي فقدان الحوت، فلما طلبا الحوت للغداء وجداه مفقودا، (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) أي رجعا على طريقهما من حيث جاءا يقصان آثارهما (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا) هو الخَضِر عليه السلام، اختُلف هل هو نبي أو ولي، لكن قوله تعالى: (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا) وهي الوحي والنبوة على رأي الجمهور (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) أي علما عظيما وهو علم الغيب، وأسراره الخفية ـ يدل على أنه نبي، كما ذهب إليه الجمهور. (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) أي علما ذا رشد، وهو العلم النافع، (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) أي على تعلم هذا العلم (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) أي ما لم يُحط به علمُك، وفي الحديث الصحيح: أن الخضر قال لموسى: " يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه " (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) أي أمرا من الأوامر (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) أي حتى أبتدئ بالتحدث عن ذلك الأمر، أي مهما أنكرت من أمري لا تتحدث حتى أحدثك أنا، وقرأ نافع: "فلا تسألنِّي" (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا) وفي الحديث " فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بِهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرف الخضر فحملوهما بغير نَول، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنَزعه، فقال موسى قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟" قال تعالى: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) أي فعلت وأتيت أمرا عظيما، من أمِر الأمر: أي عظم، (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) أي قد قلت لك ذلك (قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) أي بنسياني لوصيتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فكانت الأولى من موسى نسيانا " (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) أي لا تحملني من أمر اتباعك صعوبة ومشقة، (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ) وفي الحديث: " فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه، فاقتلع رأسه بيده " (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً) أي طاهرة من الذنوب، لأنه غير بالغ، وقرأ آخرون: "زاكيَةً" (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي لم تقتل نفسا فتستوجبَ القصاص منها (لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) أي منكرا جدا، (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا) زاد لك في هذه، للتأكيد على عجزه عن الصبر، لإصراره على عدم الالتزام بالوصية، (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا) أي عذرا عظيما لعدم مصاحبتي وبلغت الغاية، (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ) أي يشرف على السقوط، (فَأَقَامَهُ) أي مسحه بيده فأقامه، وفي الحديث: " قال الخضر بيده فأقامه " (قَالَ) أي موسى للخضر (لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي لأخذت أجرا على عملك، لأنّا استضفناهم فلم يضيفونا (قَالَ) أي الخضر لموسى (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي هذا الاعتراض فراقٌ بيننا، أو هذا الوقت وقت فراق بينَنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله موسى، لَودِدْنا لو صبر حتى يُقَصَّ علينا من أمرهما " (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) أي بمآل ما لم تصبر عليه، وهو خرق السفينة وقتل الغلام، وإقامة الجدار، والله المستعان.
تفسير الكهف 79 قصة موسى مع الخضر: 
قال تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا، وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا، رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا *) [سورة: الكهف - الآية: 79-82].
(أَمَّا السَّفِينَةُ) أي التي خرقتها (فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) أي لاكتساب المعاش (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) أي أجعل بِها عيبا بالخرق اليسير، الذي لا يضر، ولا يؤدي إلى إغراق من فيها (وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) أي كل سفينة صالحة، ووراء هنا بمعنى أمام، وهي من الأضداد، وقرأ ابن عباس: "أمامهم ملك"، كما في صحيح البخاري، (غَصْبًا) أي يغصبها من أصحابِها ويأخذها قهرا وظلما، والحاصل أن هذا العيب اليسير الذي أحدثه الخرق، سيجعل الملك الظالم يكف عن غصب هذه السفينة، (وَأَمَّا الْغُلامُ) أي الذي قتلته (فَكَانَ أَبَوَاهُ) أي أبوه وأمه، ضرورةَ أنه لا يكون له إلا أب واحد، وهو مما يلحق بالمثنى، (مُؤْمِنَيْنِ) أي وكان الغلام كافرا، أي باعتبار ما سيؤول إليه أمرُه عند بلوغه، (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) أي أن يغشاهما بطغيانه وكفره، لأن حبه قد يحملهما على متابعته على الكفر ولو كانا مؤمنين، (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) أي أن يرزقنا ولدا صالحا (خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً) أي طهارة من الذنوب والرذائل (وَأَقْرَبَ رُحْمًا) أي أقرب رحمة بوالديه وبرا بِهما (وَأَمَّا الْجِدَارُ) أي الذي أقمته (فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) أي صغيرين مات أبوهما، ولا يقال يتيم للكبير، (فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا) أي مال مدفون لهما من ذهب أو فضة (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ) أي بصلاح أبيهما الذي ادُّخر لهما، (أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) أي كمالَ قوتِهما في البدن والعقل، قد يراد به البلوغ، وقد يراد به ما بعده (وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا) أي الذي دفن تحت الجدار، فكان سقوط الجدار سببا لظهوره، فلذلك أقامه، (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) أي فعلت ما فعلت رحمة ونعمةً من ربك، وهو شبيه بقول ذي القرنين كما سيأتي: "قال هذا رحمة من ربي" (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي لم أفعله عن رأي واجتهاد مني (ذَلِكَ تَأْوِيلُ) أي ما يؤول إليه (مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) أي من الأمور السابقة: وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار. وتسطِعْ، معناه تستطعْ، وهو من اِسْطاع يَسْطيعُ، حذفت منه التاء تخفيفا.
تفسير الكهف 83 قصة ذي القرنين: 
قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا، قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا، حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي، فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء، وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *) [سورة: الكهف - الآية: 83-98].
(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ) هو نبي، أو عبد صالح ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) أي ذكرا من أنبائه (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) أي بتمهيد الأسباب وتيسيرها (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) أي طريقا ووسيلة توصله إليه (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) أي طريقا يوصله إلى مراده، وقرأ نافع: "فاتَّبعَ" (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي على حافة البحر المحيط الغربي، الذي تمتد بلاد المغرب على ساحله، (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي في عين ذات حمَأَة وهي الطين الأسود، أي أنه رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنّها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلَك، (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا) أي عند تلك العين على ساحل البحر المحيط، وكان القوم كافرين، فلذلك قال: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) أي أوحينا إليه، إما بواسطة الملك أو إلهاما، وذلك بعد أن مكنه الله منهم، (إِمَّا أَن تُعَذِّبَ) أي بالقتل والأسر لأنّهم كافرون، (وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) أي أمرا ذا حسن، وهو دعوتُهم إلى الله بالتي هي أحسن، أو المن عليهم وفك رقابِهم بعد التمكن منهم، والآية تدل بظاهرها على أن نبي، (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ) أي أصر على الكفر ولم يستجب للدعوة (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي بالقتل (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ) أي في الآخرة (فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا) أي منكرا فظيعا وهو عذاب جهنم (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) أي عملا صالحا (فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) أي المثوبة الحسنى جزاء على عمله، وقرأ آخرون: "فله جزاءُ الحسنى" (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) أي قولا ذا يسر، أي نأمره أمرا سهلا ميسرا، (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) أي طريقا آخر (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي من جهة المشرق (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا) أي ما يسترهم من حر الشمس من بناء أو أشجار أو غيرها (كَذَلِكَ) أي أمر ذي القرنين كذلك، أي كما فعل بأهل المغرب فعل بأهل المشرق، أي من تعذيب الكفار بالقتل والتيسير على المؤمنين (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) أي علما، أي أحاط علمنا بما لديه من الجنود والآلات والأسباب، (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) أي طريقا ثالثا إلى جهة الشمال، (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي الجبلين، وقرأ آخرون "السُّدين"، وهما جبلان موجودان إلى جهة الشمال، وقيل: أيضا إنّهما جبلا أرمينية وأذربيجان، والله أعلم، (وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي لغرابة لغتهم وبعدهم عن الناس، أو لقلة فطنتهم لا يفهمون ما يقال لهم، (قَالُوا) أي بواسطة مترجم من غيرهم، ويجوز أن يكون ذو القرنين وفقه الله لفهم كلامهم ومخاطبتهم بما يفهمون، (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) هم قبيلتان من ذرية آدم، من ولد يافث بن نوح، وقرأ آخرون: "ياجوج وماجوج" بغير همز، (مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) أي في أرضهم بكل وسائل الفساد من قتل وتخريب وإهلاك للحرث والنسل (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) أي أجرا وجُعلا من أموالنا (عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي ما مكنني الله فيه من أسباب الدنيا خير مما تجعلون لي من الأجر، فلست بحاجة إليه، (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي بالعُمّال وموادّ البناء وآلاته، (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) أي حاجزا حصينا، وهو أوثق من السد الذي طلبوه، (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي قطع الحديد (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي حتى إذا أكمل البناء وجعل السد مساويا لجانبي الجبلين (قَالَ انفُخُوا) أي بالكيران، ليؤَجِّج عليه النار، (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) أي كالنار حيث يبدو أحمر، (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي آتوني قطرا أفرغه عليه، وهو النحاس المُذاب، (فَمَا اسْطَاعُوا) أي فما استطاعوا بحذف التاء تخفيفا، أي فما استطاع ياجوج وماجوج (أَن يَظْهَرُوهُ) أن يعلُوه ويَرقَوا فيه لعلُوِّه وملاسته، (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) أي ما استطاعوا أن يحدثوا في السد خرقا لمتانته وصلابته، (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي) أي رحمة وإحسان ونعمة من الله علي، ولولا فضل الله علي ما مكنني من شيء، أو على العباد، حيث صرف عنهم به شر المفسدين (فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي) وهو ما وعد به من قيام القيامة (جَعَلَهُ دَكَّاء) أي أرضا مستوية، وقرأ الأكثر "جعله دكًّا" أي مدكوكا مُسَوًّى بالأرض، كما ستسوى الجبال وتصير الأرض بارزة للعيان؛ (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي بقيام القيامة واقعا لا محالة.
تفسير الكهف 99 الوعد والوعيد والتذكير بيوم القيامة: 
قال تعالى: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء، إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً * قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *) [سورة: الكهف - الآية: 99-110].
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) وذلك عند النفخة الأولى في الصور، حيث تضطرب أحوال الناس اضطرابَ البحر الذي اختلطت أمواجه، من الهَول والفزع، يوم يُدَك السد، ويخرج ياجوج وماجوج فيموجون في الناس، ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وفي الحديث الصحيح: " ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبَهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يَطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لِقحته فلا يطعَمه، ولتقومن الساعة وهو يَليط حَوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أَكلته إلى فيه فلا يطعَمها " اللقحة الناقة. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي النفخة الثانية بعد الصعق وموت الخلائق كلهم، والصور قرن، أو بُوق ينفخُ فيه الملك إسرافيل نفختين، الأولى يفزع منها الناس ثم يصعَقون، والثانية يقومون بِها من القبور إلى أرض المحشر، وبينهما أربعون سنة؛ وفي سنن الترمذي ومسند أحمد من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنعَمُ وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن، متى يؤمر بالنفخ فينفُخ " قال الترمذي: حديث حسن؛ (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) أي إلى أرض المحشر للحساب والجزاء، (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ) أي أظهرناها وأبرزناها، وجهنم اسم علم لنار الآخرة (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ جمعنا الخلائق، ودخل التنوين على "إذ" عوضا عن جملة مفهومة من الكلام السابق (لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا) أي عرضا فظيعا، حيث يسمعون لها تغيُّظا وزفيرا، (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي) أي أنّها مغطَّاة بغشاوة تمنعهم من النظر في آيات الله (وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) أي سماع الآيات المنْزلة والمواعظ، لتكبرهم واشمئزاز قلوبِهم عن سماعها، (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي) أي من الملائكة والأنبياء والصالحين (مِن دُونِي أَوْلِيَاء) أي معبودين من دوني، أو يتولونَهم من دوني بالعون والنصرة، والمعنى أفحسبوا اتخاذهم أولياءهم من دوني أمرا هينا، لن يكون بعده عواقب، أو المعنى: أفحسبوا ذلك نافعا لهم، والأول أظهر لقوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) أي أعددنا جهنم وهيأناها لهم منْزلا وضيافة، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) أي قل لهم يا محمد: هل تدرون من أعظم الناس خسارة يوم القيامة، (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي ضاع ما عملوه من الحسنات والأعمال الصالحة، كصلة الرحم والصدقة وغيرها مما يعمله الكفرة، أو ما يعملون من الأعمال الباطلة على غير شريعة مشروعة، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) أي يعتقدون أنّهم على شيء، وأنّهم مقبولون محبوبون، وهم في الحقيقة ليسوا على شيء، وذلك شأن الكفرة والمشركين وأهل البدع والضلالات كما يشهده أولوا الألباب، (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) أي جحدوها وأنكروها (وَلِقَائِهِ) أي البعث والنشور (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) أي ضاعت بالكلية ولم تنفعهم في شيء (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) أي لا يجعل لهم اعتبار ولا يقدر لهم مقدار، فهم مُزدَرَوْنَ محتَقرُون، وفي الحديث الصحيح: " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرءوا (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) " (ذَلِكَ) أي ذلك الأمر، وهو بيان لمآلهم بسبب الكفر، (جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا) أي بكفرهم، وما مصدرية (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) أي واتخاذِهم الآيات والرسل شيئا يستهزئون به  ويسخرون منه، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي الأعمال الصالحة (كَانَتْ لَهُمْ) أي عند ربّهم سبحانه (جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) أي منْزلا وضيافة، وفي الحديث الصحيح: " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنْهار الجنة " (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) أي لا يطلبون عنها تحولا إلى غيرها من ملَل أو نحوه من تنغيص استمتاع، لأنّها أطيب المنازل وأشرفها (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي) أي مدادا تكتب به كلماته سبحانه (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) أي لنفد ماء البحر مع كثرته (قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) لأنّها غير متناهية (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) يعني ولو أمددنا بحار الأرض بمثلها، وفي سورة لقمان "سبعة أبْحُر" (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) أي لا أدعي أن عندي شيئا من العلم غيرَ ما أوحاه الله إلي، فلست محيطا بكلماته، (يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أي من جملة ما يوحي إلي من كلماته أن تعبدوه وحده لا شريك له، (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ) يُستعمل الرجاء بمعنى الخوف، يعني فمن كان يخاف عقاب ربه يوم يلقاه، أو الرجاء على أصله، والمعنى: فمن كان يرجو ثوابه وجزاءه الصالح يوم يلقاه، (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) بأن يجعل شيئا من عمله الصالح لغير الله، كأن يقصد به الرياء والسمعة، أو أن يجعل شيئا من عبادته لغير الله عز وجل من الطواغيت والأنداد.
انتهى بفضل الله وحسن عونه تفسير سورة الكهف.

ويليها تفسير سورة مريم.