تفسير سورة يوسف 36: إدخال يوسف السجن بعد ثبوت براءته:
قال تعالى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ، قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا، وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا، ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ، ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ، قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ، فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ *) [سورة: يوسف - الآية: 36-42].
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ) أي غلامان وخادمان للملك، ساقي الملك وخبازُه، وكان سبب سَجنهما على ما قيل: أنّ جماعة من أهل مصر أرادوا قتل الملك، فقدَّما لهما مالا على أن يضعا السم في طعام الملك وشرابه، فقبلا ذلك، ثم ندم الساقي، فلم يسم الشراب، وقبل الخباز الرشوة فسم طعام الملك، فلما أحضرا الطعام والشراب للملك، قال الساقي للملك: لا تأكل هذا الطعام فإنه مسموم، فقال الخباز: لا تشرب شرابه أيها الملك فإنه مسموم، فقال للساقي: اشربه، فشربه فلم يضره، وقال للخباز: كله، فأبى، فأطعموه لدابة فهلكت، فأمر الملك بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة، وصدق الحديث وحسن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة تعبير الرؤى، والإحسان إلى أهل السجن وعيادة مرضاهم، صلوات الله عليه وسلامه، ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن أحباه حبا شديدا، (قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) يعني عِنبا، وتسميته خمرا باعتبار ما يؤول إليه، ورأى أنه يسقي الملك (وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبرنا بما تؤول إليه هذه الرؤى (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي ممن يحسنون تعبيرَ الرؤيا، وذلك على ما قيل أنه كان قد اشتهر بذلك عند أهل السجن، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فأحسن إلينا بتأويل رؤيانا، أو لأنه بكونه محسنا سيكون موفقا لتعبير رؤياهما على الوجه الصحيح، (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا) أي أخبركما بذلك الطعام وعن صفته، وإنما قدم لهما هذا الكلام ليدلهم على ما اصطفاه الله به من الآيات ليدعوهم إلى الله عز وجل قبل تأويل رؤياهما (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي ليس ذلك من الكَهانة أو التنجيم، وإنما هو علم علمنيه ربي (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) يعني تركت دينهم وما يعتقدون من الكهانة وعبادة الأصنام وغيرها (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) أخبرهما أنه من بيت النبوة (مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ) ما صح ذلك ولا استقام (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) أي ما أوحى الله به إلينا من العلم الذي أرشدنا به إليه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) أي فيشركون بالله وهم يعلمون أنه خالقهم الذي يستحق العبادة دون سواه (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا صاحبيَّ في السجن، وناداهما بالصحبة في دار الأحزان حيث تصفو المودة وتتخلص القلوب من الضغائن، ليُقبِلا عليه ويقبَلا نصيحتَه (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) أي أعبادةُ آلهة متعددين عاجزين، خير أم عبادة إله واحد غالب (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم) يعني تعبدون أسماء لآلهة مزعومة غير موجودة، (مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) أي ما أنزل الله بعبادتِها من حجة ولا برهان (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) أي هو الذي يأمر لا غيره (أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) أي أمر من له الحكم وحده بأن يُعبد وحده دون سواه (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي المستقيم أو الثابت (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) فلذلك يعبدون غير الله جهلا وظلما (يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) أي سيده الملك، أي سيعود إلى سيرته الأولى (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أي يصلبه الملك جزاء على جريرته، (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) أي أُتِمَّ وأُحكِم، أي أن هذا الذي رأيتما واقع وحتمٌ مَقْضِيٌّ، وقد روي أن أحدهما وهو الخباز لما أخبره بما سيؤول إليه أمره من الصلب، أنكر وقال: لم أرَ شيئا، فقال لهما: قضي الأمر (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا) وهو الساقي (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) أي اذكرني عند سيدك الملك بما رأيت مني من تعبير الرؤيا (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي أنسى الشيطانُ الساقيَ ذكر أمر يوسف عند سيده، وكأن التفاتته عليه السلام إلى غير ربه كانت سببا في ذلك النسيان (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، والمشهور أن لبث سبع سنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق