تفسير سورة يوسف 19: إلقاء الإخوة لأخيهم يوسف في
البئر:
قال تعالى: (وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ
وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ، قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ، وَأَسَرُّوهُ
بِضَاعَةً، وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ
دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي
اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، عَسَى أَن يَنفَعَنَا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ
وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ، وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ،
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ
حُكْمًا وَعِلْمًا، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *). [سورة: يوسف - الآية: 19-22].
(وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ) أي جماعة أو رُفقة
تسير في الأرض، أي مسافرون، وذلك بعد أن ألقى الإخوة أخاهم يوسف في البئر وتركوه
وحيدا (فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ) الذي يرد الماء، أي واحدا منهم ليستقي الماء من البئر (فَأَدْلَى
دَلْوَهُ) أي أرسلها في البئر ليأخذ الماء، أي فاستمسك
يوسف بالدلو أو بالحبل، فخرج من البئر، فلما رآه المُستقي (قَالَ
يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ) وقرأ الأكثر: يا بُشْرَايَ،
وإنما نادى البشرى مبالغة في إظهار الفرح، كأنه قال: يا بشراي أقبلي، فلقد فزتُ
بمطلب عظيم، وإنما استبشر به لأن الغلام كان جميلا، بل هو أجمل الغلمان، والجمال
مما تنشرح له الصدور، والغلام يطلق على من بلغ السنتين إلى ما قبل البلوغ (وَأَسَرُّوهُ
بِضَاعَةً) أي أخفاه الوارد مع أصحابه عن بقية الرفقة، وقالوا
اشتريناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه؛ وهذا هو التفسير الراجح؛ "بضاعة" أي متاعا للتجارة يباع ويشترى؛ وقيل: أخفاه إخوتُه، وذلك أنّهم
رجعوا لينظروا ما وقع ليوسف، فوجدوا السيارة قد استخرجوه من البئر، فقالوا لهم: إن
هذا غلام قد أبق منا، أي عبد هرب منا، فاشترُوه منا، فاشترَوه، وسكت يوسف مخافة أن
يقتلوه، روي هذا عن ابن عباس، (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي إخوة يوسف، أو السيارة وهو الراجح، أي ليس غافلا عنهم، يرعى عبدَه
يوسف من كيدهم، وفيه أيضا وعيد شديد لهم إن آذوْه بشيء (وَشَرَوْهُ
بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) أي باعوه بثمن ناقص
زهيد بدراهم قليلة، والذي باعه هم السيارة بِمصر، وهذا هو الراجح، والموافق لنظم
القرآن، (وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي زهدوا فيه ورغبوا عنه، وقللوا من قيمته، لأنه شيء ملتقَط، ولأنّهم خافوا
أن يطالبهم به مولاه، فلذلك رأوا أن يتخلصوا منه بثمن زهيد، وقيل: باعه الإخوة من
السيارة بثمن ناقص، ولكن هذا لا يتوافق مع النظم الكريم، ثم كيف يقول الله تعالى
في الإخوة: إنّهم زهِدوا في أخيهم وهم أصلا أرادوا أن يتخلصوا منه، بل هموا بقتله،
(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) أي الذي اشتراه من السيارة بمصر،
وهو عزيز مصر، أي قال لامرأته: أكرمي هذا الغلام في مثواه وإقامته عندنا، والعبارة
فيها تجوز، لأن يوسف هو المكرَم وليس المثوى، وهذا على المبالغة في الإكرام (عَسَى
أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) أي نتبنّاه فيصير
ابنا لنا، وكان العزيز على ما روي عقيما (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي
الأَرْضِ) أي جعلنا له فيها مكانا ومكانة ومنْزلة عظيمة،
أي كما نفعل بعبادنا الصالحين (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) أي من تعبيرِ الرؤى، أي ولأجل هذه الغاية العظيمة وغيرها مكناه، والواو
تعطف على مقدر، كأنه قال: مكنا له لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من تأويل الأحاديث،
لأنّها أعظم تلك الغايات، وبِها سيرتفع مقامه بين أهل مصر (وَاللّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) لا يمنعه أحد من فعل ما يريد، بل
إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون، ومن جملة ذلك أمر يوسف عليه السلام (وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون أنه غالب، فلذلك يظنون أن لهم من
الأمر شيئا (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي زمن اكتمال نمو جسمه وقوته، وهو سن الأربعين (آتَيْنَاهُ
حُكْمًا وَعِلْمًا) أي حكمة وعلما، والمراد بِالحكمة
الفهم وسداد الرأي، أو النبوة (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي نجزي كلّ من أحسن عبادة ربه كذلك، بأن نؤتيه العلم والحكمة ونرفع ذكره
في الدنيا.
تفسير سورة يوسف 23: مكيدة امرأة العزيز بيوسف:
قال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا
عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ، قَالَ مَعَاذَ
اللّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ *
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ،
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ، قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ
بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ
رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ
قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ *
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
*) [سورة: يوسف - الآية:
23-29]
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) طالبته برفق، أو خادعته عن نفسه، لتنال منه الذي تريد، وإنما قال التي هو
في بيتها دون امرأة العزيز، لبيان أنه في يدها وتحت سيطرتِها بإمكانِها أن تنال
منه ما أرادت، (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) أي أغلقتها،
والتعبير بالتغليق لإفادة أنّها كثيرة، أو لإفادة أنّها أحكمت إغلاقها، وقد قيل:
إنّها سبعة، ولا يثبُت، وذلك أنّها أحبته حبا شديدا لجماله وحسنه، فحملها ذلك على
أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي تعالَ، أو أقبل، أو تَهيأت لك، وقرأ نافع وآخرون: هِيتَ لك (قَالَ
مَعَاذَ اللّهِ) أي أعوذ به معاذا، وألتجئُ إليه
أن يحفظني مما تريدين مني (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أي إنه خالقي ومدبر أمري، أحسن مُقامي، فكيف أقابل نعمته بالعصيان، ويجوز
أن يكون الضمير في "إنه" ضمير شأن، فيكون المعنى: إنه "أي الشأن"
سيدي العزيز أحسن مثواي، فكيف أتجرأ على خيانته في حرمه وعلى فراشه، وهذا لتذكيرها
بحق زوجها (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يظفرون بِخير الدنيا والآخرة، ولا ينجون من الْمَكروه فيهما (وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ) أي بالمراودة والعزم والإصرار (وَهَمَّ
بِهَا) أي بالاستجابة لِمطلبها بِمقتضى الطبيعة
البشرية، وكان ذلك قبل النبوة (لَوْلا
أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) أي حجة ربه عليه، بتذكر قبح
الخطيئة وما يترتب عليها من العقاب، أو رأى آية من آيات الله تزجره عما كان همّ به،
والمعنى: لولا رؤيته للبرهان لاستجاب لها ووقع فيما هم به (كَذَلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء) أي كذلك سنتُنا في
عبادنا المصطفَيْنَ، لنصرف عنه الفاحشة؛ والفحشاء ما قَبُحَ من المعاصي، والسوء:
اسم للمعصية لأنّها تسوء صاحبها (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم لطاعته وعصمهم عن معصيته (وَاسْتَبَقَا
الْبَابَ) أي تسابقا إلى باب من تلك الأبواب المغلقة، وذلك
بعدما هرب منها وسابقها ليخرج وهي تسابقه لتمنعه من الخروج، وقد قيل: إنّها أبواب
مغلقة على الترتيب بابا فبابا، وأنه لما هرب تنفتح الأبواب أمامه، لكن الظاهر
أنَّها أبواب في جهات مختلفة، وكانت كلها منافذ إلى ذلك المكان، لأن كون الأبواب
تنفتح أمام يوسف يحتاج إلى نقل صحيح، وأيضا فيستطيع يوسف أن يفتح الباب بنفسه من
الداخل بدون مفتاح، وذلك أن المفاتيح يحتاجها في الغالب من كان في الخارج، أما من
الداخل فإنه يفتحها بيديه من غير حاجة إلى مفاتيح (وَقَدَّتْ
قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ) أي شقت قميصه من الخلف حيث جذبتهُ
به من ورائه، (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) أي وجدا زوجها العزيز يريد أن يدخل، إما في الباب الخارجي أو في الباب
الذي يدخل منه إلى ذلك المكان، (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا) أي أن يسيء إلى زوجك بمحاولة إكراهها على الزنا أو نحوه (إِلاَّ
أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي ليس له جزاء إلا
السجن أو العقاب المؤلم الشديد (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) أي قال يوسف للعزيز: امرأتك طالبتني بالفاحشة، لا أني أردت بِها سوءا (وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) أي شهد إما بالبراءة، لأنه رأى
ما جرى بينهما أو سمعه، أو شهد بالحجة، والحجة هي: (إِن
كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ) إن كان القميص مشقوقا من قدام، كان هو الطالبَ لها وهي تدفعه فشقت قميصه،
(وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ) أي وإن كان قميصه مشقوقا من
الخلف كانت هي الطالبةَ؛ وقد رُوي أن الشاهد كان صبيا في المهد نطق بِهذا الكلام،
والأولى والمناسب أن الشاهد شاهد بالحجة، وقد روي أنه كان رجلا حكيما من أهلها كان
يستشيره العزيز، فشهد بِهذه الحجة لتظهر براءة يوسف للعزيز، وترجع اللائمةُ على
امرأته، دون كشف النقاب عن الأمر (فَلَمَّا رَأَى) أي العزيز (قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن
كَيْدِكُنَّ) أي من جملة احتيال النساء ومكرهن (إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) لشدة تأثيره، ولذلك كان افتتانُ
الرجال بالنساء أشد الافتتان، حتى إن الرجل الحازم ليفقد لُبَّه (يُوسُفُ
أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) أي لا تذكره ولا تتحدث به، كأنه
لم يقع شيء (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) أي امرأة العزيز (إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) أي المذنبين المتعمدين للذنب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق