السبت، 27 مايو 2017

تفسير سورة النور 2

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *) [سورة: النور - الآية: 11-18].
(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ) أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، والمراد به ما رُميت الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما هو مبين في الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما. (عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) أي جماعة من أهل ملتكم، سواء كان كذلك، أو بحسب الظاهر، (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) وذلك لأن هذا الابتلاء كان بحكمة ربانية وسيعقبه الفرج، وستنالون عليه الثواب العظيم، وتظهر كرامكتم على الله عز وجل بإنزال القرآن في شأنكم (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاء وعقابه بقدر ما خاض فيه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) أي معظم الإفك، وهو عبد الله بنُ أُبي ابنُ سلول المنافق، ( لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) بجعله في الدرك الأسفل من النار (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) خطاب للخائضين في الإفك من المؤمنين عدا من تولى كبره (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا) أي خيرا بأهل ملتهم النازلين منزلة أنفسهم، فيظنون بإخوانهم المؤمنين مثل ما يظنون بأنفسهم (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) أي ظاهر كونه إفكا (لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء) يشهدون على ثبوت كما قالوا (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) أي محكوم عليهم بالكذب في شريعته (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا) بعدم معاجلتكم بالعقوبة وإمهالكم للتوبة (وَالْآخِرَةِ) بالعفو والمغفرة (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي بسبب ما خُضتم فيه (عَذَابٌ عَظِيمٌ) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي إذ يتلقاه بعضكم من بعض وتسألون عنه (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) أي سهلا لا تبِعةَ له (وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) لا يُقادر قدرُه في الوزر، وفي الصحيح: أن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالا، يهوي بها في النار سبعين خريفا، (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا) أي لا يحق لنا أن نتكلم بما لا علم لنا به (سُبْحَانَكَ) تعجب مما تفوهوا به، وأصله أن يقال عند رؤية ما يتعجب منه تنزيها له سبحانه عن أن يكون شيء خارجا عن قدرته (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) البهتان هو ما يبهت ويحير صاحبه، ويطلق في الغالب على  أفظع الكذب (يَعِظُكُمُ اللَّهُ) كراهةَ (أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بجميع أحوال عباده حكيم في جميع أفعاله، ومن جملتها ما ابتلى به الصديقة عائشة رضي الله عنها من أهل الإفك.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *) [سورة: النور - الآية: 19-20]
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ) أي تنتشر (الْفَاحِشَةُ) أي الخصلة القبيحة المفرطة في القبح، وهي الزنا (فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أي يعلم ما في قلوبهم مما يُكنونه من البغض للمؤمنين فيعاقبهم عليه (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) والجواب محذوف لظهوره: أي لولا رأفته ورحمته وفضله عليكم لعاجلكم بالعذاب.

الأحد، 21 مايو 2017

تفسير سورة النور

تفسير سورة النور
(سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ *) [سورة: النور - الأية: 1-3])
(سُورَةٌ) أي عظيمة، لما تضمنته من الأحكام الشرعية (أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) أي فرضنا أحكامها، أي الأحكام المذكورة فيها، وأوجبناها (وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) أي واضحة الدلالة على الأحكام المنوطة بها، وتَكرار الإنزال لبيان كمال العناية بشأن هذه الأحكام (لَّعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ) أي فتعملوا بموجب هذه الأحكام وتتقوا ما حرم عليكم (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أي مما يتلى عليكم حكم الزاني والزانية، فهما مبتدأ على حذف مضاف، أو التقدير: أما حكم الزاني والزانية (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) الجلد هو ضرب الجلد، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالأيدي والعصي والجريد والنعال، وكان الجلد بالسياط في زمن عمر بن الخطاب، ومذهب مالك أن ينزع عن الزاني ثيابه غير ما يستر عورته، ويزاد على الجلد أن يتم تغريبه ونفيه عاما كما ثبتت به السنة، وهذا الحكم بالنسبة للبكر، وأما الثيب فإنه يرجم حتى الموت. (وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) بأن يُجلدا جلدا غير مؤلم أو يجلدا أقل من مائة، وهذا بعد ثبوت الحد عند الحاكم، أما قبله فقد أمر النبي صلى الله عليه أصحاب الحدود أن يستروا على أنفسهم (إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إذ الإيمان بالله يقتضي عدم التواني في حدوده (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي جماعة يحصل بهم التشهير والزجر، اثنان فأكثر على القول المشهور لمالك، (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وهذا على التنفير والتقبيح، لأن من زنى من شأنه أن يعود، كما أنه يعرض نفسه للتهمة والطعن في النسب وغيرها من المفاسد، ويؤيده أن الزاني إذا تاب وأصلح تاب الله عليه، ثم أيضا الزانية المسلمة لا يجوز أن يتزوجها مشرك.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة: النور - الأية: 4-5]
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي العفيفات أي يرمونهن بالزنا (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) فتبطل شهادته في المسلمين (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) أي خارجون عن الطاعة متجاوزون الحد (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي رجعوا عما قالوه وندموا (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي يتجاوز عن الذنوب ويقبل توبة التائبين ويحسن إلى العباد بإفاضة رحمته إذا تابوا إليه.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَع شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * ويدرأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ *) [سورة: النور - الأية: 6-10].

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) أي بالزنا (وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ) (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) وقرأ الأكثر: أربعَ بالنصب، (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) يعني يقسم بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا، بدليل عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه، فرجع معناها إلى أنه يشهد الله على نفسه (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ) أي إبعاده من رحمته وقرأ نافع: أنْ لعنةُ (إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (ويدرأُ) أي يدفع (ويدرأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) أي الدنيوي وهو الحد (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) أي فيما رماها به من الزنا (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وقرأ نافع: أنْ غَضِبَ، وأن هنا وفيما قبل مخففة من الثقيلة. وتخصيص الغضب بجانب المرأة  للتغليظ، لأن كثيرا من النساء يسهل عليهن التفوه بلفظ اللعن، بخلاف الغضب فيشق عليهن لثقل وقعه على قلوبهن. (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بما شرعه لكم من الأحكام، ومنها اللعان، ورفع حد القذف على الزوج وعدم مطالبته بالشهود، وجواب لولا محذوف لتهويله، وتقديره نحو: لوقعتم في الحرج، (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي يتوب على عباده، حكيم فيما يشرعه لعباده من أحكام، بالستر على الكاذب ورفع الحد عنه، وتعريضه للتوبة.

الاثنين، 30 يناير 2017

المحفوظ السادس

قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ؟ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي * إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ *) [سورة: يوسف - الآية: 50-53].
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف، أي بعدما أخبره المبعوث إلى السجن بتعبير الرؤيا، (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ) أي مبعوث الملك ليخرجه من السجن (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) أي إلى سيدك الملك (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي ما شأنُهن، وإنّما أراد يوسف أن يبحث الملك في هذه القصة لتثبت براءته ونزاهته عند الملك وعند كل الناس، وأنه إنما دخل السجن ظُلما (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي ربي سبحانه عز وجل هو العليم بحقيقة كيدهن، وقد ثبت في الصحيح من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَْ "، وهذا محمول على أنه تواضع من نبينا عليه الصلاة والسلام،  وإلا فهو أشرف الأنبياء وأعظمهم قدرا عند ربه عز وجل؛ وفي مسند أحمد بإسناد حسن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال: " لَوْ كُنْتُ أَنَا لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ وَمَا ابْتَغَيْتُ الْعُذْرَ "، ويمكن أن يحمل على أنه إرشاد لأمته إلى اختيار أيسر الأمور، لأنه كان يمكن أن يخرج من السجن ثم يأمر بعد ذلك بتبرئة نفسه (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ) أي إذ خادعتنّ يوسف، هل وجدتنّ منه ميلا إليكن؟ (قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) أي أيَّ سوء (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) أي معترفةً بالحق الذي آن أوان ظهوره، إما توبة منها، وإما خوفا من أن تفضحها صواحبها، أو لأنّها عدم تناهيها عن حبه لم تبال بظهور سرها (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي ظهر وتبين بجلاء بعد خفاء (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي صادق في قوله: هي راودتني عن نفسي أو في شأنه كله (ذَلِكَ) هذا من كلام يوسف عليه السلام، أي طلبي من الملك أن يبحث في شأن النسوة قبل أن أخرج من السجن، ويجوز أن يكون يوسف قال هذا الكلام بينه وبين نفسه، أو قاله لأصحابه في السجن أو لمبعوث الملك لما رجع إليه ثاني مرة (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي العزيز، أي لم أخنه في زوجته وهو غائب عنها (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) أي لا يسدده ولكن يبطله ويزهقه. روى ابن جرير الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس قال: قال يوسف "ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب" فقال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت بما هممت به؟ فقال "وما أبرئ نفسي" (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) لا أنزهها عن السوء، وقد تقدم قوله تعالى: "وهمَّ بِها"، (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الأمر بالسوء، وشديدة الميل إلى الشهوات والانجذاب إليها (إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي) أي إلا أن تتداركها رحمة ربي، على أن الاستثناء متصل، أو المعنى: لكن رحمة ربي هي التي تصرفها عن السوء على أن الاستثناء منقطع (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي عظيم المغفرة لعباده، كثير الإحسان إليهم، أي أنه يحسن إليهم ولا يحاسبهم بالذنوب.

الأحد، 29 يناير 2017

المحفوظ الخامس

تفسير سورة يوسف 43: رؤيا ملك مصر: 
قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ، وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ، وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ، وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا، فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ *) [سورة: يوسف - الآية: 43-49].
(وَقَالَ الْمَلِكُ) أي ملك مصر، وهو غير العزيز (إِنِّي أَرَى) أي رأيت في المنام، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية كأنّها تُشاهد (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) أي ممتلئات لحما (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ) أي هزيلة (وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) أي وسبعا أُخر يابسات (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ) أي الأشراف، يروى أنه جمع السحرة والكهنة والمعبرين (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ) أي بينوا لي ما تؤول إليه رؤياي (إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أي إن كنتم تعلمون تعبير الرؤى (قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ) أي تخاليط أحلام، أو أباطيل من أحاديث نفس ووساوس الشيطان (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ) أي لا نعلم تأويل المنامات الباطلة، لأنه لا تأويل لها، أي أنَّها ليست من الرؤى وإنما هي من الأحلام الباطلة، وفي الحديث الصحيح: قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ "، أو لا نعلم تأويل مثل هذا النوع مما فيه تخليط (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا) أي الناجي من السجن من صاحبي يوسف، وهو الساقي (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي وتذكر يوسفَ بعد أن نسيه زمانا طويلا (أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ) أي بتأويل هذه الرؤيا (فَأَرْسِلُونِ) أي أرسلوني أذهَبْ إلى من عنده علم تعبير الرؤى، يريد يوسف عليه السلام الذي عبَّر له رؤياه في السجن (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) يعني فأرسلوه إليه، فجاءه فقال: يوسفُ أيها الصديق (أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) أي في هذه الرؤيا (لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ليعلموا تعبير الرؤيا فيظهرَ لهم فضلُك ومنْزلتُك، فيخلصوك من السجن (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) أي دائبين أي مداومين على العمل مواظبين في سنوات الخصب (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ) أي لا تَذْرُوه حَبًّا لكيلا يسوس (إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ) فأرشدهم إلى أنه مع الدأب على الزراعة لا بد أن يقتصدوا في الأكل (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) أي صعاب، وهي سنوات الجدب (يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) أي في سنوات الخصب (إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ) أي تخبئون من البذور للزراعة (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) أي ينْزل فيه الغيث (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يعصرون من العنب والزيتون وغيرهما. وهذا زيادة منه عليه الصلاة والسلام على ما دلت عليه الرؤيا، مما علمه الله إياه، تبشيرا لهم بالفرج بعد تلك السنين السبع الشداد.
تفسير سورة يوسف 50: تعبير يوسف رؤيا ملك مصر: 
قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ؟ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي * إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ *) [سورة: يوسف - الآية: 50-53].
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف، أي بعدما أخبره المبعوث إلى السجن بتعبير الرؤيا، (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ) أي مبعوث الملك ليخرجه من السجن (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) أي إلى سيدك الملك (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي ما شأنُهن، وإنّما أراد يوسف أن يبحث الملك في هذه القصة لتثبت براءته ونزاهته عند الملك وعند كل الناس، وأنه إنما دخل السجن ظُلما (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي ربي سبحانه عز وجل هو العليم بحقيقة كيدهن، وقد ثبت في الصحيح من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَْ "، وهذا محمول على أنه تواضع من نبينا عليه الصلاة والسلام،  وإلا فهو أشرف الأنبياء وأعظمهم قدرا عند ربه عز وجل؛ وفي مسند أحمد بإسناد حسن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال: " لَوْ كُنْتُ أَنَا لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ وَمَا ابْتَغَيْتُ الْعُذْرَ "، ويمكن أن يحمل على أنه إرشاد لأمته إلى اختيار أيسر الأمور، لأنه كان يمكن أن يخرج من السجن ثم يأمر بعد ذلك بتبرئة نفسه (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ) أي إذ خادعتنّ يوسف، هل وجدتنّ منه ميلا إليكن؟ (قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) أي أيَّ سوء (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) أي معترفةً بالحق الذي آن أوان ظهوره، إما توبة منها، وإما خوفا من أن تفضحها صواحبها، أو لأنّها عدم تناهيها عن حبه لم تبال بظهور سرها (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي ظهر وتبين بجلاء بعد خفاء (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي صادق في قوله: هي راودتني عن نفسي أو في شأنه كله (ذَلِكَ) هذا من كلام يوسف عليه السلام، أي طلبي من الملك أن يبحث في شأن النسوة قبل أن أخرج من السجن، ويجوز أن يكون يوسف قال هذا الكلام بينه وبين نفسه، أو قاله لأصحابه في السجن أو لمبعوث الملك لما رجع إليه ثاني مرة (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي العزيز، أي لم أخنه في زوجته وهو غائب عنها (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) أي لا يسدده ولكن يبطله ويزهقه. روى ابن جرير الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس قال: قال يوسف "ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب" فقال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت بما هممت به؟ فقال "وما أبرئ نفسي" (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) لا أنزهها عن السوء، وقد تقدم قوله تعالى: "وهمَّ بِها"، (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الأمر بالسوء، وشديدة الميل إلى الشهوات والانجذاب إليها (إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي) أي إلا أن تتداركها رحمة ربي، على أن الاستثناء متصل، أو المعنى: لكن رحمة ربي هي التي تصرفها عن السوء على أن الاستثناء منقطع (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي عظيم المغفرة لعباده، كثير الإحسان إليهم، أي أنه يحسن إليهم ولا يحاسبهم بالذنوب.

الجمعة، 27 يناير 2017

المحفوظ الرابع

تفسير سورة يوسف 36: إدخال يوسف السجن بعد ثبوت براءته: 
قال تعالى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ، قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا، وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا، ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ، ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ، قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ، فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ *[سورة: يوسف - الآية: 36-42].

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ) أي غلامان وخادمان للملك، ساقي الملك وخبازُه، وكان سبب سَجنهما على ما قيل: أنّ جماعة من أهل مصر أرادوا قتل الملك، فقدَّما لهما مالا على أن يضعا السم في طعام الملك وشرابه، فقبلا ذلك، ثم ندم الساقي، فلم يسم الشراب، وقبل الخباز الرشوة فسم طعام الملك، فلما أحضرا الطعام والشراب للملك، قال الساقي للملك: لا تأكل هذا الطعام فإنه مسموم، فقال الخباز: لا تشرب شرابه أيها الملك فإنه مسموم، فقال للساقي: اشربه، فشربه فلم يضره، وقال للخباز: كله، فأبى، فأطعموه لدابة فهلكت، فأمر الملك بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة، وصدق الحديث وحسن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة تعبير الرؤى، والإحسان إلى أهل السجن وعيادة مرضاهم، صلوات الله عليه وسلامه، ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن أحباه حبا شديدا، (قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) يعني عِنبا، وتسميته خمرا باعتبار ما يؤول إليه، ورأى أنه يسقي الملك (وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبرنا بما تؤول إليه هذه الرؤى (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي ممن يحسنون تعبيرَ الرؤيا، وذلك على ما قيل أنه كان قد اشتهر بذلك عند أهل السجن، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فأحسن إلينا بتأويل رؤيانا، أو لأنه بكونه محسنا سيكون موفقا لتعبير رؤياهما على الوجه الصحيح، (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا) أي أخبركما بذلك الطعام وعن صفته، وإنما قدم لهما هذا الكلام ليدلهم على ما اصطفاه الله به من  الآيات ليدعوهم إلى الله عز وجل قبل تأويل رؤياهما (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي ليس ذلك من الكَهانة أو التنجيم، وإنما هو علم علمنيه ربي (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) يعني تركت دينهم وما يعتقدون من الكهانة وعبادة الأصنام وغيرها (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) أخبرهما أنه من بيت النبوة (مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ) ما صح ذلك ولا استقام (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) أي ما أوحى الله به إلينا من العلم الذي أرشدنا به إليه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) أي فيشركون بالله وهم يعلمون أنه خالقهم الذي يستحق العبادة دون سواه (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا صاحبيَّ في السجن، وناداهما بالصحبة في دار الأحزان حيث تصفو المودة وتتخلص القلوب من الضغائن، ليُقبِلا عليه ويقبَلا نصيحتَه (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) أي أعبادةُ آلهة متعددين عاجزين، خير أم عبادة إله واحد غالب (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم) يعني تعبدون أسماء لآلهة مزعومة غير موجودة، (مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) أي ما أنزل الله بعبادتِها من حجة ولا برهان (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) أي هو الذي يأمر لا غيره (أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) أي أمر من له الحكم وحده بأن يُعبد وحده دون سواه (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي المستقيم أو الثابت (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) فلذلك يعبدون غير الله جهلا وظلما (يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) أي سيده الملك، أي سيعود إلى سيرته الأولى (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أي يصلبه الملك جزاء على جريرته، (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) أي أُتِمَّ وأُحكِم، أي أن هذا الذي رأيتما واقع وحتمٌ مَقْضِيٌّ، وقد روي أن أحدهما وهو الخباز لما أخبره بما سيؤول إليه أمره من الصلب، أنكر وقال: لم أرَ شيئا، فقال لهما: قضي الأمر (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا) وهو الساقي (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) أي اذكرني عند سيدك الملك بما رأيت مني من تعبير الرؤيا (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي أنسى الشيطانُ الساقيَ ذكر أمر يوسف عند سيده، وكأن التفاتته عليه السلام إلى غير ربه كانت سببا في ذلك النسيان (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، والمشهور أن لبث سبع سنين.

الخميس، 26 يناير 2017

المحفوظ الثالث

تفسير سورة يوسف 30: افتتان نساء أهل مصر بجمال يوسف: 
قال تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا، وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ؛ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا، إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ، وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ *) [سورة: يوسف - الآية: 30-35].
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) أي في مصر (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ) أي تطالب غلامَها وخادمها بِمُواقعتها، (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) أي شقَّ حبُّه شَغافَ قلبها، وهو حِجابه، أو باطنه، أي وصل الحب سويداء قلبها (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) أي في زيغ واضح عن طريق الصواب (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي بمقالتهن واغتيابِهن، وتسميته مكرا على ما ذُكر أنَّها استكمتْهنَّ سرَّها، فأفشينَه بين النساء، وكنَّ على ما روي أربعَ نسوة (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ) أي من يدعوهن للحضور عندها (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي هيَّأت لهن ما يتَّكِئْنَ عليه من النمارق والوسائد، (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا) أي وقدمت لهن طعاما بعدما جِئْنَ وجلسن، وقد قيل قدمت لهن لحما، وكانوا يأكلونه حزًّا بالسكاكين، ولا ينهشونه بالأسنان، وقيل أيضا: قدمت لهن موزا وبِطِّيخا وأُترُجًّا (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) أي قالت ليوسف: اخرج على هؤلاء النسوة، أي حال كونِهن مشغولات بقطع اللحم أو الفاكهة بالسكاكين، ولأنه كان خادما لها، فهو يمتثل كل أوامرها، وكانت أمرته أن يخرج عليهن من أجل أن يرينَه فقط، وقيل: أمرته بالخروج عليهن للخدمة (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي أعظمنه واندهشن برؤية جماله الفائق (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي جرحن أيديهن بالسكاكين، لفرط الدهشة (وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ) أي تنَزه عن صفات العجز والنقص، وهذا تعجب منهن من قدرة الله تعالى على خلق مثل هذا الجمال (مَا هَذَا بَشَرًا) لأن جمالاً مثلَ جماله غيرُ معهود (إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي شريف عظيم، وهذا على ما رُكزَ في الفطر من أنْ لا خلق أفضل من الملك، ولا خلق أقبح من الشيطان (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي هذا الذي وقع لكن من الافتتان به بنظرة واحدة إليه، فقطعتن أيديكن، هو الذي لُمْتنني فيه أنا الذي أراه كل يوم ويعيش إلى جنبي (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) أي اعتصم وامتنع وعصى أمري (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) أي ما آمره به فيما يأتِي بعدما عصانِي فيما مضى (لَيُسْجَنَنَّ) أي لآمرن بإدخاله السجن (وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ) أي الأذلاء الْمُهانين (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وكان الأصل أن يقول: مما تدعوني إليه، لأن الداعية واحدة، وهي امرأة العزيز، وقد قيل: إنّهن أمرنه بمطاوعتها وخوفنه من مخالفتها، وهذا هو الظاهر، لأن حضورهن يقتضي أن يقلن شيئا، وقيل أيضا: إن كل واحدة منهن خلت به لتنصحه، فكانت كل واحدة تدعوه إلى نفسها، والله أعلم (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أي إن لم تدفعهن عني أمِلْ إليهن وأُطاوعهنَّ يوما على ما أردن، لأني عبد عاجز ضعيف لا قوة لي على مُدافعتهنّ من دونك (وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) باعتداء حدودك، والجاهل هو الذي لا يعلم، وأجهل منه من يعلم ولا يعمل (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ) أي أجاب دعاءه (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) إما بكفهن عن مراودته، وإما بإدخاله السجن (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) السميع لدعاء الضارعين إليه، العليمُ بمصالحهم وأحوالهم ونياتِهم (ثُمَّ بَدَا لَهُم) أي للعزيز ومن معه من أهل مشورته (مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ) أي الحجج الدالة على براءة يوسف، من شق القميص من الخلف، وتقطيع النساء أيديهن (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي بدا لهم أن يدخلوه السجن، وكأن التقدير: حكاية قولهم: لنَسْجُنَنَّه حتى حين.

الأربعاء، 25 يناير 2017

المحفوظ الثاني

تفسير سورة يوسف 19: إلقاء الإخوة لأخيهم يوسف في البئر: 
قال تعالى: (وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ، قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ، وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً، وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ، وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *). [سورة: يوسف - الآية: 19-22].
(وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ) أي جماعة أو رُفقة تسير في الأرض، أي مسافرون، وذلك بعد أن ألقى الإخوة أخاهم يوسف في البئر وتركوه وحيدا (فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ) الذي يرد الماء، أي واحدا منهم ليستقي الماء من البئر (فَأَدْلَى دَلْوَهُ) أي أرسلها في البئر ليأخذ الماء، أي فاستمسك يوسف بالدلو أو بالحبل، فخرج من البئر، فلما رآه المُستقي (قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ) وقرأ الأكثر: يا بُشْرَايَ، وإنما نادى البشرى مبالغة في إظهار الفرح، كأنه قال: يا بشراي أقبلي، فلقد فزتُ بمطلب عظيم، وإنما استبشر به لأن الغلام كان جميلا، بل هو أجمل الغلمان، والجمال مما تنشرح له الصدور، والغلام يطلق على من بلغ السنتين إلى ما قبل البلوغ (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) أي أخفاه الوارد مع أصحابه عن بقية الرفقة، وقالوا اشتريناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه؛ وهذا هو التفسير الراجح؛ "بضاعة" أي متاعا للتجارة يباع ويشترى؛ وقيل: أخفاه إخوتُه، وذلك أنّهم رجعوا لينظروا ما وقع ليوسف، فوجدوا السيارة قد استخرجوه من البئر، فقالوا لهم: إن هذا غلام قد أبق منا، أي عبد هرب منا، فاشترُوه منا، فاشترَوه، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، روي هذا عن ابن عباس، (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي إخوة يوسف، أو السيارة وهو الراجح، أي ليس غافلا عنهم، يرعى عبدَه يوسف من كيدهم، وفيه أيضا وعيد شديد لهم إن آذوْه بشيء (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) أي باعوه بثمن ناقص زهيد بدراهم قليلة، والذي باعه هم السيارة بِمصر، وهذا هو الراجح، والموافق لنظم القرآن، (وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي زهدوا فيه ورغبوا عنه، وقللوا من قيمته، لأنه شيء ملتقَط، ولأنّهم خافوا أن يطالبهم به مولاه، فلذلك رأوا أن يتخلصوا منه بثمن زهيد، وقيل: باعه الإخوة من السيارة بثمن ناقص، ولكن هذا لا يتوافق مع النظم الكريم، ثم كيف يقول الله تعالى في الإخوة: إنّهم زهِدوا في أخيهم وهم أصلا أرادوا أن يتخلصوا منه، بل هموا بقتله، (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) أي الذي اشتراه من السيارة بمصر، وهو عزيز مصر، أي قال لامرأته: أكرمي هذا الغلام في مثواه وإقامته عندنا، والعبارة فيها تجوز، لأن يوسف هو المكرَم وليس المثوى، وهذا على المبالغة في الإكرام (عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) أي نتبنّاه فيصير ابنا لنا، وكان العزيز على ما روي عقيما (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ) أي جعلنا له فيها مكانا ومكانة ومنْزلة عظيمة، أي كما نفعل بعبادنا الصالحين (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) أي من تعبيرِ الرؤى، أي ولأجل هذه الغاية العظيمة وغيرها مكناه، والواو تعطف على مقدر، كأنه قال: مكنا له لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من تأويل الأحاديث، لأنّها أعظم تلك الغايات، وبِها سيرتفع مقامه بين أهل مصر (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) لا يمنعه أحد من فعل ما يريد، بل إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون، ومن جملة ذلك أمر يوسف عليه السلام (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون أنه غالب، فلذلك يظنون أن لهم من الأمر شيئا (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي زمن اكتمال نمو جسمه وقوته، وهو سن الأربعين (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) أي حكمة وعلما، والمراد بِالحكمة الفهم وسداد الرأي، أو النبوة (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي نجزي كلّ من أحسن عبادة ربه كذلك، بأن نؤتيه العلم والحكمة ونرفع ذكره في الدنيا.
تفسير سورة يوسف 23: مكيدة امرأة العزيز بيوسف: 
قال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ، قَالَ مَعَاذَ اللّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ، قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ *) [سورة: يوسف - الآية: 23-29]

(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ) طالبته برفق، أو خادعته عن نفسه، لتنال منه الذي تريد، وإنما قال التي هو في بيتها دون امرأة العزيز، لبيان أنه في يدها وتحت سيطرتِها بإمكانِها أن تنال منه ما أرادت، (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) أي أغلقتها، والتعبير بالتغليق لإفادة أنّها كثيرة، أو لإفادة أنّها أحكمت إغلاقها، وقد قيل: إنّها سبعة، ولا يثبُت، وذلك أنّها أحبته حبا شديدا لجماله وحسنه، فحملها ذلك على أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي تعالَ، أو أقبل، أو تَهيأت لك، وقرأ نافع وآخرون: هِيتَ لك (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ) أي أعوذ به معاذا، وألتجئُ إليه أن يحفظني مما تريدين مني (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أي إنه خالقي ومدبر أمري، أحسن مُقامي، فكيف أقابل نعمته بالعصيان، ويجوز أن يكون الضمير في "إنه" ضمير شأن، فيكون المعنى: إنه "أي الشأن" سيدي العزيز أحسن مثواي، فكيف أتجرأ على خيانته في حرمه وعلى فراشه، وهذا لتذكيرها بحق زوجها (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يظفرون بِخير الدنيا والآخرة، ولا ينجون من الْمَكروه فيهما (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي بالمراودة والعزم والإصرار (وَهَمَّ بِهَا) أي بالاستجابة لِمطلبها بِمقتضى الطبيعة البشرية، وكان ذلك قبل النبوة  (لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) أي حجة ربه عليه، بتذكر قبح الخطيئة وما يترتب عليها من العقاب، أو رأى آية من آيات الله تزجره عما كان همّ به، والمعنى: لولا رؤيته للبرهان لاستجاب لها ووقع فيما هم به (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء) أي كذلك سنتُنا في عبادنا المصطفَيْنَ، لنصرف عنه الفاحشة؛ والفحشاء ما قَبُحَ من المعاصي، والسوء: اسم للمعصية لأنّها تسوء صاحبها (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم لطاعته وعصمهم عن معصيته (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) أي تسابقا إلى باب من تلك الأبواب المغلقة، وذلك بعدما هرب منها وسابقها ليخرج وهي تسابقه لتمنعه من الخروج، وقد قيل: إنّها أبواب مغلقة على الترتيب بابا فبابا، وأنه لما هرب تنفتح الأبواب أمامه، لكن الظاهر أنَّها أبواب في جهات مختلفة، وكانت كلها منافذ إلى ذلك المكان، لأن كون الأبواب تنفتح أمام يوسف يحتاج إلى نقل صحيح، وأيضا فيستطيع يوسف أن يفتح الباب بنفسه من الداخل بدون مفتاح، وذلك أن المفاتيح يحتاجها في الغالب من كان في الخارج، أما من الداخل فإنه يفتحها بيديه من غير حاجة إلى مفاتيح (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ) أي شقت قميصه من الخلف حيث جذبتهُ به من ورائه، (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) أي وجدا زوجها العزيز يريد أن يدخل، إما في الباب الخارجي أو في الباب الذي يدخل منه إلى ذلك المكان، (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا) أي أن يسيء إلى زوجك بمحاولة إكراهها على الزنا أو نحوه (إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي ليس له جزاء إلا السجن أو العقاب المؤلم الشديد (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) أي قال يوسف للعزيز: امرأتك طالبتني بالفاحشة، لا أني أردت بِها سوءا (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) أي شهد إما بالبراءة، لأنه رأى ما جرى بينهما أو سمعه، أو شهد بالحجة، والحجة هي: (إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ) إن كان القميص مشقوقا من قدام، كان هو الطالبَ لها وهي تدفعه فشقت قميصه، (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ) أي وإن كان قميصه مشقوقا من الخلف كانت هي الطالبةَ؛ وقد رُوي أن الشاهد كان صبيا في المهد نطق بِهذا الكلام، والأولى والمناسب أن الشاهد شاهد بالحجة، وقد روي أنه كان رجلا حكيما من أهلها كان يستشيره العزيز، فشهد بِهذه الحجة لتظهر براءة يوسف للعزيز، وترجع اللائمةُ على امرأته، دون كشف النقاب عن الأمر (فَلَمَّا رَأَى) أي العزيز (قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ) أي من جملة احتيال النساء ومكرهن (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) لشدة تأثيره، ولذلك كان افتتانُ الرجال بالنساء أشد الافتتان، حتى إن الرجل الحازم ليفقد لُبَّه (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) أي لا تذكره ولا تتحدث به، كأنه لم يقع شيء (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) أي امرأة العزيز (إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) أي المذنبين المتعمدين للذنب.