الأحد، 21 أغسطس 2016

الحزب 1 سورة البقرة

تفسير الاستعادة والبسملة: (أعوذ بالله من الشيطان) أي ألتجئ إليه وأحتمي به من شر الشيطان، وهو إبليس وجنوده، أنْ يصرفَني عن قراءتي أو صلاتي أو عملي (الرجيم): أي المطرود من رحمة الرحيم. (بسم الله) أي باسمه أبدأ عملي أو صلاتي أو قراءتي، لا بغيره مما كانوا يبدؤون به في الجاهلية، مستمدا منه العون، (الرحمن الرحيم) مشتقان من الرحمة، وهي من صفات كماله، لأنه يطلب المعونة، وهي من نعمه، ونعمه من فيض رحمته سبحانه .
تفسير الفاتحة تشتمل على الثناء وإخلاص العبادة وطلب العون والهداية: (الحمد لله) الحمد كلمة تجمع لله كل صفات الكمال والجلال والجمال، (رب العالمين) مدبر أمر المخلوقات كلها (الرحمن الرحيم) اسمان يدلان على صفة من صفاته وهي الرحمة، فمن رحمته أفاض النعم وأسبغها (ملك يوم الدين) أي التصرف المطلق يوم الحساب، ففيه إشارة إلى الحساب والجزاء، (إياك نعبد وإياك نستعين) نعبدك وحدك ونستعين بك وحدك، لا بغيرك من المعبودات الباطلة، (اهدنا الصراط المستقيم) أي أرشدنا إلى دين الإسلام الموصل إليك، وثبتنا عليه (صراط الذين أنعمت عليهم) طريق من أنعمت عليهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) لا طريق الذين حل بِهم غضبُك بسبب مجاوزتهم الحدود كاليهود، ولا الذين ضلوا بابتداعهم في الدين كالنصارى.
تفسير البقرة 1 (القرآن معجز من الله هاد للمتقين): (بسم الله الرحمن الرحيم) (الم): حروف مقطعة تقرأ: أَلِفْ لاَمْ مِّيمْ، ومعناها: أن هذه الحروف حروف عربية أنزل بِها القرآن، وهي حروف يتكلم بِها العرب الذين نزل فيهم القرآن، ومع هذا لم يستطيعوا أن يأتوا بآية من مثله، فرجع مغزاها إلى التحدي والتعجيز (ذَلِكَ الْكِتَابُ) أي هذا الكتاب، والإشارة بذلك لبيان بعد منْزلته، (لاَ رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في أنه منْزَلٌ من الله (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) أي هادٍ لهم، أو أنزلناه هدايةً لهم، وهم الذين يجتنبون المناهي، ولا يهتَدي بالحق من يتبع الهوى، لأن الحق مخالف لهواه .
البقرة 3 صفات المتقين ووعد الله لهم بالجنة: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي بكل ما غاب عن العباد، لا تدركه الحواس الخمس، (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يؤدون الصلوات الخمس بشروطها وآدابِها (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) أي من أموالهم التي رزقناهم إياها، ففيه الحث على الإنفاق (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) أي القرآن (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) كل الكتب السماوية الأخرى ما ذُكر منها وما لم يُذكَر (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يصدقون بِها جزما (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) على نور وبصيرة (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ظفروا بالمحبوب ونجوا من المكروه.
البقرة 6 صفات الكافرين (المظهرين للكفر) ووعيدهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ) أي جحدوا النعمة، فلم يُقروا بالخالق (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) لا يؤمنون سواء أخوفتهم أم لم تخوفهم (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) أي سُدَّتْ قلوبُهم وأسماعهم فلا يلج إليها الخير (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) أي غطاء، فلا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون (وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) هذا جزاؤهم في الآخرة، وهو عذاب النار.
البقرة 7 صفات الكافرين (المظهرين للإيمان) ووعيدهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) كذَّبَهم الله فيما أظهروه (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعني ليوقعوا بِهم المكروه (وَمَا يُخَادِعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) لا يضرون إلا أنفسهم، وقرأ عاصم: يخْدعون وهما بمعنى (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) وهو الشك أو ما هو أعم منه (فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً) بكراهتهم الإذعان للحق، وإظهارهم للإذعان (وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع (بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ) أي بتكذيبهم بالحق، وقرأ عاصم: يَكْذِبُونَ: أي يكذبون على الله ويقولون عليه بغير علم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ) بالمعاصي وغيرها والوشاية بالمؤمنين إلى الكافرين (قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي نريد أن نُدَاري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) بما هم فيه من الإفساد، كذَبوا على أنفسهم حتى صدَّقوا كذبَهم وأنَّهم مصلحون لا محالة . (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ) إيمانا يصحبه استقامة وعمل صالح (قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء) أي ضعاف العقول، يريدون المؤمنين  الصادقين يحقرونَهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) أي رؤوس الكفر (قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يجزيهم بعملهم (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يترددون (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى) أي أخذوا الضلال بدل الهدى واستبدلوه به (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) أي ضلوا وخسرت تجارتُهم.
البقرة 17 مثل الكافرين (المظهرين للإيمان) في حيرتِهم: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) أي أوقدها (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ) أي الموقد (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ) أي الموقد ومن معه أو المنافقين (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ). مثل حيرة الكافرين أمام سطوع نور الحق وانطفائه في قلوبِهم، بحال أهل هذه النار. (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) تشبيه بليغ أي هم صم، أي كالصم لأنَّهم لا يسمعون الخير، وكالبكم لأنّهم لا ينطقون بالحق، وكالعمي لأنّهم لا يبصرونه (فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ) الفاء سببية، أي لا يرجعون عن ضلالهم.
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء) أي كذوي صيب أي مطر (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) النكرة للتعظيم (يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ) أي رؤوس أصابعهم (فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ) من سببية والصاعقة نار تنْزل من السماء مع الرعد (حَذَرَ الْمَوْتِ) (واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) جملة اعترضت أثناء المثل للوعيد، أي محيط بِهم علما وقدرة (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) من شدته (كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ) مثل حيرة الكافرين أمام الحق بحيرة أهل الصيب (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم توعدهم بأن يأخذها منهم (إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
البقرة 21 دعوة الناس إلى توحيد الله بالعبادة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) العبادة هي الخضوع والطاعة، والرب مدبر الأمر (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لتتقوا عذابه (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً) مهَدها وبسَطها كالفراش وذللها لمصالحكم (وَالسَّمَاء بِنَاء) كالسقف للأرض (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء) (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ) ما تثمره الأرض من الفواكه والخضروات (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً) أي شركاء في العبادة (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه هو من يرزقكم وحده لا شريك له.
البقرة 23 إعجاز القرآن ووعيد الكافرين به: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ) في شك (مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرفه بالعبودية (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) من مثل القرآن (وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم) أي من يحضر ويشهد معكم من الأعوان من الإنس والجن (مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم أنه كلام البشر (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ) (وَلَن تَفْعَلُواْ) أي في المستقبل زيادة في التعجيز والتحدي (فَاتَّقُواْ النَّارَ) أي فآمنوا به لتتقوا النار (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) أي الأصنام التي عبدت أو حجارة الكبريت (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ويدخلها بعض العصاة ثم يخرجون منها ولا يخلدون فيها.
البقرة 25 وعد المؤمنين بجنات وأنهار وأزواج: (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا) صدقوا بالحق (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الأعمال الصالحة (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) بساتين وحدائق، والتنكير للتعظيم (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي من تحت قصورها أنْهار الماء وغيره (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذه المرة، أو في الدنيا، كلما جاءتْهم الملائكة أو الولدان بثمار، قالوا هذا مثل الذي أتيتمونا به (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) يتشابه في الشكل وطعمه مختلف (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي من الحيض وغيره (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فلا تنغيص لنعيمهم بنفاده أو زواله.
البقرة 26 ضرب الأمثال بأحقر المخلوقات للاعتبار: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي) أي لا يترُك لأن المراد لازم الحياء، وهو الترك (أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا) ما مبهمة، والعامة يقولون: معيَّنا، وهو خطأ، لأنه مُبهَم وليس بمعين (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) دونَها في الحَقارة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) ردٌّ على الكفرة من اليهود عندما ذكر الله الذباب والعنكبوت، قالوا: ما يُشبه هذا كلامَ الله، وما يُريد الله بذكر هذه الأشياء الحقيرة، فرد الله باطلَهم بأنه كما خلقها لا يترك ضرب المثل بِها (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) فيكون بيان الحق سببا في الهداية والضلال (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) أي المتمردين الخارجين عن الطاعة، لأن الحق لا يوافق أهواءهم.
البقرة 27 صفات الفاسقين من اليهود وغيرهم: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ) أي لا يوفون بما عاهدهم الله عليه من الطاعة وترك المعصية، والإيمان بخاتم النبيين، (مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) أي توثُّق العهد بالآيات المنْزلة أو بالأيْمان (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) كصلة العباد بالله وأنبيائه وصلة الأرحام (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) بالمعاصي واتباع الشهوات وإثارة الشبهات وصد الناس عن الإيمان (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) هم ضد المفلحين، ضاع منهم رأس المال والربح، وباؤوا بغضب من الله، خسروا الدنيا والآخرة.
البقرة 28 بدء الخلق: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) تجحدون نعمه: إما بعدم الإقرار بأنه الخالق، أو بعبادة غيره مع الإقرار (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً) قبل الخلق نُطَفًا، أو لأنَّهم خلقوا أمثالَ الذَّر "صغار النمل"، فأخذ عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا به ويوحدوه بالعبادة، ثم أماتَهم (فَأَحْيَاكُمْ) بعد أن صوركم في الأرحام ونفخ فيكم الروح ثم أخرجكم إلى هذه الدنيا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عندما تنتهي آجالكم وأعماركم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) عند النشر والبعث من القبور (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي للحساب والجزاء.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) أي لأجلكم ولمنافعكم (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء) علا إليها وارتفع على الوجه الذي يليق به سبحانه من غير تمثيل ولا تكييف، أو قصد إليها بكمال قدرته وإرادته من غير صارف (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) أي خلقن وأتَمهن وأتقن خلقهن، و"سبعَ" حال من سوى، أو مفعول ثان له على معنى صيَّرهن (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي محيط بخلقه علما، فلا يخفى عليه شيء مع سعة خلقه.
البقرة 30 بدء الخلق: خلق آدم أبي البشر: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) أي من يخلفُني في عمارة الأرض وتنفيذي أوامري فيها، أو قوما يخلُف بعضهم بعضا، وإذ ظرف زمان متعلق بـ (قَالُواْ) أو باذكر محذوفا، (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) أي يريقُها بالقتل، وعلِموا ذلك بتعليم الله إياهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) نُنَزِّهك عن كل نقص وسوء مُثْنِين عليك بكل كمال   (وَنُقَدِّسُ لَكَ) بمعنى التسبيح، أو نطهر أنفسنا من الأدناس وأفعالنا من المعاصي، أو نطهر أنفسنا من الالتفات إلى غيرك (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) من الحِكَم في ذلك.
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) أي أسماء الأشياء (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي المُسمّيات (عَلَى الْمَلاَئِكَةِ) (فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم أن استخلافه لا يليق، وعن ابن عباس قال: قالت الملائكة: لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا. (قَالُواْ سُبْحَانَكَ) أي نُنَزهك عن كل نقص، ومن ذلك أن يَعْتَرض أحد على أمرك وأنت تعلم كل شيء (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي العليم بكل شيء، الحكيم فيما يأمر وفيما يقضي ويقدر .
البقرة 33 بدء الخلق: إثبات شرف آدم وأمر الملائكة بالسجود له: (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ) (فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي ما غاب عنكم وعن غيركم منهما (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) ما تظهرون (وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) أي تخفونه في أنفسكم، ومن ذلك زعمكم أن الله لا يخلق خلقا أفضل منكم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ) أي اذكر حين أمرهم بالسجود لآدم تكريما له (فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ) هو الشيطان المارد (أَبَى) امتنع (وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) أي جحد نعمة ربه عليه، إذ عصى أمره بحجة أنه أفضل من آدم، فكيف أسجد لمخلوق من طين وأنا خير منه.
بدء الخلق سكنى آدم وزوجه الجنة وإخراجهما منها: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ) أي حواء كما في الصحيح (الْجَنَّةَ) أي فيها (وَكُلاَ مِنْهَا) من ثمارها ورزقها (رَغَداً) أكلا رغدا أي واسعا هنيئا (حَيْثُ شِئْتُمَا) في أي مكان أردتما وفي أي الثمار والأشجار (وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) شجرة الخلد كما في طَهَ (فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ) الفاء للسببية (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) حملهما على الزلة بسببها (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) من النعيم (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ) من الجنة إلى الأرض (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي العداوة بينهم وبين الشيطان وذريته، أو العداوة بين بني آدم (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) مكان استقرار (وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أي قيام الساعة.
البقرة 37 توبة الله على آدم وإنزاله إلى الأرض وتكليفه: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ) ذكر بعضها في الأعراف "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" (فَتَابَ عَلَيْهِ) قَبل توبته (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الذي يقبل التوبة، ويقابل الذنوب بالإحسان (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً) (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى) أي ما تَهتدون به من الرسل والكتب (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) أي يوم القيامة، عندما يخاف الناس من العذاب، ويحزنون حسرة على ما فات (وَالَّذِينَ كَفَرواْ) جحدوا نعمتي (وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) المبينة في الكتب (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها أبدا .
البقرة 40 دعوة أهل الكتاب إلى الوفاء بالعهد والإيمان بخاتم النبيين: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) هم أهل الكتاب يهودا أو نصارى (اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إذ جعل فيكم الأنبياء والملوك وآتاكم فضلا لم يؤته أحدا قبلكم (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي) وهو الإيمان بخاتم النبيين بدليله خاصة، وبغير ذلك عامة (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) بحسن الإثابة وإتمام النعمة (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي خافوني في كل ما تأتون وتذرون، لا غيري (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ) القرآن (مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ) أي للتوراة، لأنّها شاهدة على صدقه (وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) لا تسبقوا الناس إلى الكفر به، وعندكم من دلائل صدقه ما يُغنيكم (وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) لا تسترخصوا الحق فتتركوه مقابل ثمن قليل، وهو الأجر الذي يتقاضاه العلماء، أي لا تستبدلوا بِها ثمنا زهيدا، وهو ما يصرف لكم من الأجور، فتكتمون الحق (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) اتقوا عذابي بامتثال أمري، واجتناب نَهيي، لا غيري.
البقرة 41 دعوة العلماء إلى تبيين الحق وعدم كتمانه: (وَلاَ تَلْبِسُواْ) لا تخلطوا (الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ) وتخفوا (الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه الحق وما سواه باطل (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ) أدوها بشروطها وآدابِها (وَآتُواْ الزَّكَاةَ) الصدقة التي تزكو بِها أموالكم (وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي صلوا مع المصلين (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) كلمة جامعة لكل خير (وَتَنسَوْنَ) وتتركون (أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) أي فأنتم أولى الناس بالامتثال (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) أي أتسمعون فلا تعقلون،  والأصل فيها: فألا تعقلون، ولكن لما كانت همزة الاستفهام لها حق الصدارة تقدمت على الفاء العاطفة.
البقرة 45 فضل الصبر والصلاة والاستعانة بِهما على أمور الدين والدنيا: (وَاسْتَعِينُواْ) أي اطلبوا العون على الطاعة وعلى تبليغ الحق وعدم كتمانه وعلى ما يصيبكم من المصائب والبلايا (بِالصَّبْرِ) وهو حبس النفس عن الجزع عند المصيبة، وحبسها على الطاعة وحجزها عن المعصية (وَالصَّلاَةِ) (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ)أي ثقيلة، والكبر مستلزم للثقَل (إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) الذين تسكن قلوبُهم وجوارحهم، لأنّهم يستشعرون عظمة ما هم فيه (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) الظن هنا بمعنى اليقين أي يعلمون قطعا (أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أي يوم القيامة للحساب والجزاء.
البقرة 47 تذكير بني إسرائيل بنعم  الله عليهم ووعيد من كفر بِها: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) إسرائيل هو يعقوب، ويريد ببني إسرائيل أهل الكتاب يهودا أو نصارى، والمراد بِهم في البقرة اليهود خاصة (اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي اذكروها بشكر المنعم بِها (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) خاص بعد العام، فضلهم قبل أن يسلب منهم هذا الفضل، بمعاصيهم، وصار إلى خير أمة أخرجت للناس (وَاتَّقُواْ يَوْماً) عظيما وهو يوم الجزاء (لاَّ تَجْزِي) لا تُغني ولا تدفع (نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً) من الأهوال (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) أي إلا بإذنه لمن يشاء ويرضى (وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) أي فداء (وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) لا ينقذون من العذاب.
البقرة 49 تذكير بني إسرائيل بنعم  الله عليهم: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أتباع فرعون على دينه، أو أهل مصر، أي اذكروا هذه النعمة، ولا تنسوها  (يَسُومُونَكُمْ) يحملونكم ويذيقونكم (سُوءَ الْعَذَابِ) أفظعه وأشده (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ) الذكور من أطفالكم، بيان للعذاب المذكور (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ) يستبقون البنات ويتركونَهن حيات لاستخدامهن (وَفِي ذَلِكُم) أي تذبيح الذكور واستحياء البنات، أو الإنجاء (بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) امتحان واختبار عظيم لصبركم على الأول، ولشكركم على الثاني، والبلاء تارة يكون بالمضارِّ ليصبروا، وتارة بالمسارِّ ليشكروا؛ فهو على الأول مِحنة، وعلى الثاني نعمة.
(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي فلقناه وفصلنا بعضه عن بعض، والباء للملابسة لإفادة أن الله معهم بحفظه، وتحتمل السببية، أي لأجلكم وبسبب إنجائكم (فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ)، وذلك أنّهم لما خرجوا فرارا من بطش فرعون، تبعهم بجنوده حتى أدركهم عند البحر، فقال بنو إسرائيل: إن فرعون قد أدركنا، فقال لهم موسى: كلا إن الله معنا بنصرته، فأوحى الله إلى موسى أن يضرب البحر بعصاه، فانفلق الماء وصار على جوانب البحر كالجبل العظيم، وظهر لهم الطريق في وسط البحر، فسلكوه ونجوا، وتبعهم فرعون وجنوده، فأطبقه الله عليهم فأغرقهم أجمعين.
البقرة 51 تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) المواعدة هنا بمعنى الوعد، أي وعدناه إعطاءه الكتاب في أربعين ليلة، أي بعد انقضائها (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي اتخذتموه معبودا من دون الله، وهو العجل الذي صنعه السامري (مِن بَعْدِهِ) أي من بعد ما رأيتم منه التوحيد ونبذَه للشرك (وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) لأنكم صرفتم العبادة لغير من يستحقها (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ) أي محونا عنكم الجريمة التي وقعتم فيها (مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لأي لتشكروا الله على نعمته (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) أي التوراة (وَالْفُرْقَانَ) عطف للصفة على موصوفها، لأنّها تفرق بين الحق والباطل، أو المعجزات الفارقة بين الحق والباطل (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لتهتدوا بما فيها من الشرائع والآيات البينات.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي معبودا (فَتُوبُواْ) ارجعوا (إِلَى بَارِئِكُمْ) أي طاعة خالقكم بعد معصيته، والبارئ الخالق خلقا بريئا من التفاوت وعدم التناسب (فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) أي ليقتل منكم البريء المجرم، من عبد العجل ومن لم يعبده، وقد شدد الله عليهم كما ترى،  (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ) طاعته بقتل البريء للمجرم ليقبل توبتكم، خير لكم  من التمادي فيحل عليكم غضبه جميعا (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) قبل توبتكم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الذي يقبل التوبة، ويقابل الذنوب بالإحسان.
البقرة 55 تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ) أي لن نقر لك بأن من تناجيه هو الله (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) أي عيانا، القائل ذلك هم السبعون الذين اختارهم موسى ليعتذروا إلى الله من عبادة العجل، وقد ذكرهم في الأعراف (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي نار من السماء أو صيحة صعقوا بِها (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) أي أثرها في أبدانكم، أو وبعضكم ينظر إلى سقوط بعض (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ) استجابة لموسى لما قال: "لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي" أي قبل مجيئهم إليك، ماذا أقول لبني إسرائيل وقد قتلت خيارهم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتشكروا نعمتي في كشف البلاء وإحيائكم بعد الصعق.
(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) أي السحاب، وكان ذلك في التيه لما رفضوا أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم ويقاتلوا الجبارين، كما في المائدة، فتاهوا أربعين سنة، وشكوا حر الشمس (وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) هو شيء كالعسل كان ينْزل عليهم فيمزجونه بالماء ويشربونه، (وَالسَّلْوَى) طائر يشبه السُّمانى كان ينْزل عليهم من جهة السماء، وقيل: كانت هذه الطيور تنْزل مطبوخة مشوية، فيأخذون منها حاجتهم (كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي واشكروا النعمة (وَمَا ظَلَمُونَا) بكفرهم وطغيانِهم (وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأن وبال ظلمهم عائد عليهم.
البقرة 58 تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ) أي المدينة، لأنّها تجمع الناس، فإذا قل الناس قيل لها قرية، وإذا كثروا قيل لها مدينة، والمراد بيت المقدس، وكان ذلك بعد التيه، وهي غير القرية في قوله تعالى : "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" لأن الأمر في هذه كان قبل التيه (فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) واسعا هنيئا (وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً) أي ساجدين وهو الظاهر، أو خاضعين متواضعين (وَقُولُواْ حِطَّةٌ) أي أمرنا حطة، أي أن تحط عنا ذنوبنا، والمراد أن يستغفروا ليدخلوا متطهرين من الذنوب (نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي ثوابا، أي الذين يحسنون بعد الإساءة. وقرأ نافع: "يُغفَرْ".  
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) تعريفهم بالصلة لزيادة تقبيح ظلمهم، ويحتمل أن يكونوا منقسمين إلى فريقين: ظالمين وغير ظالمين، وهذا هو الظاهر (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) دخلوا يزحفون على أستاههم أي أدبارهم وقالوا: حنطة، حبة في شعرة، كما في الصحيح (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ) وضع الظاهر موضع الضمير وتعريفهم بالصلة كما تقدم لزيادة تقبيح ظلمهم، أو لأنّهم منقسمون (رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء) طاعون نزل عليهم فهلك منهم سبعون ألفا (بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) أي بما يقترفون من المعاصي ويتجاوزن حدود الله.
البقرة 60 تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى) طلب ربه السقيا لعدَم الماء أو قلته (لِقَوْمِهِ) أي لأجلهم (فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ) المعرفة هنا للعهد، أي حجرا كان قريبا منه أو حجرا معينا، وهذا ما يقتضيه التعريف، وقال الحسن: لم يكن حجرا معينا، أمره بضرب حجر أي كان، والله أعلم (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) أي فضرب موسى الحجر بعصاه، فانفلقت منه اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط، فلذلك قال: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ) أي كل قبيلة أو سبط (مَّشْرَبَهُمْ) أي عينهم التي يشربون منها، لكي لا يتنازعوا (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ) أي مما رزقكم إياه من غير صنع لأيديكم فيه (وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ) لا تتجاوزوا الحد ولا تتمادوا في طغيانكم، حال كونكم (مُفْسِدِينَ) وهذه حال مؤكدة، لأن عثا بمعنى أفسد.
البقرة 61 ما قابل به بنو إسرائيل نعم الله من الكفران: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ) وهو المن والسلوى (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ) أي لأجلنا (يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ) هذا مجاز عقلي، لأن المنبت في الحقيقة هو الله (مِن بَقْلِهَا) أي النبات الرطب مما يـأكله الناس كالكرفس والكراث والنعناع، و"من" بيانية لأنّها تبين ما تنبت الأرض (وَقِثَّآئِهَا) هو الخيار (وَفُومِهَا) أي الثوم، وقيل الحنطة (وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) (قَالَ) أي موسى (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى) أي الخسيس الدنيء (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) بالنفيس الذي لا تشْقَوْن في تحصيله (اهْبِطُواْ مِصْراً) انزلوا مصرا من الأمصار أي بلدا من البلدان، وقيل مصر نفسها، ويجوز أن تكون مرادة وتكون هنا منونة، وقد ذكر الله تعالى أنه أورثهم الأرض بعد إغراق فرعون وجنوده (فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ).
البقرة 61 ما حل ببني إسرائيل جزاء كفرانِهم: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي لزمتهم الذلة والصغار (وَالْمَسْكَنَةُ) الفاقة وفقر النفس وشحها، وهذه استعارة بالكناية، أي أحاطت بِهم الذلة والمسكنة إحاطة القبة بمن هو بداخلها (وَبَآؤُوْاْ) أي انقلبوا (بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ) أي لزمهم؛ (ذَلِكَ) أي الذي حل بِهم من الغضب والذلة والمسكنة (بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) يجحدونَها إما بردها أو بمخالفتها (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) التقييد به لزيادة تقبيح صنيعهم، لأنّهم يعلمون أن ذلك ليس بحق (ذَلِكَ) أي الذي حملهم على الكفر بالآيات مع وضوحها وقتل الأنبياء مع معرفتهم بقبح صنيعهم (بِمَا عَصَواْ) بعصيانِهم (وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) أي باستمرار، فألِفوا ذلك فطُبع على قلوبِهم، والذنوب تجلب ذنوبا أعظم منها، فسهل عليهم بذلك اقتراف الذنوب العظام .
البقرة 62 الإسلام دين العالمين: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ) كل مؤمن (وَالَّذِينَ هَادُواْ) أي تَهودوا أي دخلوا في الديانة اليهودية (وَالنَّصَارَى) اسم لأتباع عيسى لأنّهم نصروه (وَالصَّابِئِينَ) الصابئ هو الخارج من دين إلى دين آخر، واختلف في المراد بِهم، والذي يظهر أنّهم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة، (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) فيدخلون جميعا في زمرة المؤمنين، لا فرق في ذلك بين من كان قبل ذلك يهوديا أو نصرانيا أو صابئا، فصاروا أمة واحدة بتوحيد الإيمان إياهم، ولهم أجرهم الموفور يوم القيامة، ولا يخافون شيئا كما يخاف الكافرون، ولا يحزنون كما يحزن المقصِّرون.
البقرة 63 ما حل ببني إسرائيل جزاء كفرانِهم: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) أي العهد الموثق بالآيات أو الأَيْمَان، وهو الانقياد لموسى عليه السلام (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) لما جاءهم موسى بالتوراة شقت عليهم تكاليفها، فأُمر جبريل بقلع جبل الطور، فرفعه حتى صار ظلة عليهم (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) أي بجد واجتهاد، أي قائلين لهم ذلك على لسان نبينا (وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ) أي احفظوه ولا تنسوه وعلموه للناس (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لتتقوا بذلك ما ينتظر العاصين من العذاب (ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ) أي أعرضتم عن الميثاق بعد كل ما رأيتم من الآيات (فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالتجاوز والصفح والمغفرة (لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) الخسران نقصان رأس المال أو ذهابه أجمع، أي مغبونين هالكين في الدنيا والآخرة.
البقرة 65 ما حل ببني إسرائيل من المسخ جزاء اصطيادهم يوم السبت: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) اعتداءَ (الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ) ذكر الله تعالى ذلك في الأعراف، وذلك أن الله حرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت، ابتلاء لهم وعقوبة، فكانت الحيتان تظهر فوق الماء يوم السبت، فإذا كان في الأيام الأخرى لم تظهر الحيتان، فقاموا بحفر الحِيض بجنب البحر، وأشرعوا إليها الجداول، فتدخل الحيتان إلى الحياض بالموج يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، فيصطادونَها يوم الأحد (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) أي فمسخناهم قردة أذلاء صاغرين (فَجَعَلْنَاهَا) أي المسخة (نَكَالاً) عقوبة (لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا) لمعاصريهم ومن بعدهم، أو لمن بحضرتِها من القرى وما تباعد عنها، وذكر في الأعراف أنه أنجى الذين نَهوهم عن الاصطياد (وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) أي للذين يتقون عذاب الله.
البقرة 67 قصة أمر بني إسرائيل بذبح بقرة: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً) وكان سبب ذلك أن أخوان من بني إسرائيل عمَدا إلى ابن عم لهما فقتلاه ليرثا ماله، وطرحاه على باب محلتهم، ثم أصبحا يطلبان بدمه، فأمرهم موسى بأمر ربه أن يذبحوا بقرة (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) أتستهزئ بنا وتسخر منا، طلبنا منك إرشادنا إلى معرفة القاتل وتأمرنا بذبح بقرة، إذ لا علاقة بينهما في نظرهم (قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) لأن الاستهزاء من صفات الجاهلين، لا من صفات المرسلين (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ) أي ما صفتها وكيف هي؟ (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ) أي مسنة انقطع وِلادها (وَلاَ بِكْرٌ) أي صغيرة لم تلد بعد (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) أي وسط بينهما، قيل هي التي ولدت بطنا أو بطنين (فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ) افعلوه ولا تترددوا ولا تتعنتوا بالسؤال فيشددَ الله عليكم.
(قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا) (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا) أي شديدة الصفرة، كأبيض ناصع، وأسود حالك، وأخضر ناضر، وأحمر قانٍ (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) تنشرح صدورهم بمنظرها (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) أي يشبه بعضه بعضا (وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) أي إلى البقرة المأمور بِها (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ) أي أنّها صعبة غير مذللة، لا تثير الأرض للزراعة (وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ) فتذِلَّ بذلك (مُسَلَّمَةٌ) أي من العيوب، أو أخلص لونُها من الشيات (لاَّ شِيَةَ فِيهَا) أي لا لون فيها يخالف لونَها (قَالُواْ الآنَ) أي تبين الآن بالحجة القاطعة أنك (جِئْتَ بِالْحَقِّ) (فَذَبَحُوهَا) أي فطلبوها فوجدوها فذبحوها (وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) لغلاء ثمنها، وقد ذكر المفسرون أنّهم وجدوها عند شاب بار بوالديه، فأبى أن يبيعها منهم إلا بملء جلدها ذهبا.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) أي ذا نفس أي صاحبها (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أي تدارأتم وتدافعتم وتخاصمتم فيها، فيتهم كل واحد بِها الآخر (وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) أي تخفون (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ) أي المقتول (بِبَعْضِهَا) أي بشيء من أجزاء البقرة، روي أنه قام فأشار إلى القاتل (ابن أخيه، أو إلى ابنيْ عمه، على اختلاف الآثار في القاتل)، فأخذا فقتلا، فلم يرث قاتل بعد ذلك (كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى) أي من قبورهم، فاعتبروا (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) دلائل قدرته (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ) أي أن الحجارة تلين، وقلوب هؤلاء لا تلين (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء) (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ) يتردى من رؤوس الجبال خشية من الله (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد شديد لقساة القلوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق