البقرة 142 تحويل
القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) أي الخفاف العقول، والمقصود بِهم
هنا اليهود (مَا وَلاَّهُمْ) أيُّ شيء صرفهم (عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) أي عن استقبالها، يعني بيت
المقدس، وفي صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، وقال السفهاء من
الناس، وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فوقع ما أخبر الله تعالى
أنه يقع، ففيه علم من أعلام النبوة (قُل لِّلّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي جميع الجهات مملوكة له تعالى لا اختصاص لشيء منها به جل وعلا، وإنما
العبرة بامتثال أمره (يَهْدِي
مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يعني بامتثال أوامره من غير اعتراض.
البقرة 143 فضل
أمة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَكَذَلِكَ) أي الأمر كذلك، قصد بِها تثبيت
ما بعدها من الكلام، أو كما هديناكم (جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا) أي عدولا خيارا،
استعير الوسط للخصال الحميدة لأنّها وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، كالجود بين
الإسراف والبخل، والشجاعة بين الجبن والتهور (لِّتَكُونُواْ
شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وفي صحيح البخاري من حديث أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: يدعى نوح يوم القيامة، فيقول لبيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلغت؟ فيقول
نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول:
محمد وأمته. فتشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدا، فذلك قوله جل ذكره:
"وكذلك" إلخ.
البقرة 143 ابتلاء
الناس بتحويل القبلة: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنتَ عَلَيْهَا) أي بيت المقدس، في
صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم كان أول ما قدم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا،
وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، فخرج
رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول
الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت،
وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه
قبل البيت أنكروا ذلك؛ (إِلاَّ
لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي من يتبعك في ذلك ومن يرتد عن
الإسلام فلا يتبعك، وإظهاره بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع. (وَإِن
كَانَتْ لَكَبِيرَةً) أي وإنَّها لكبيرة
أي شاقة وثقيلة، إن حرف نصب وتوكيد مخففة من إنَّ، واللام في "لكبيرة"
هي الفارقة بين "إن" النافية و"إن" المخففة (إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ) وفي صحيح البخاري من حديث البراء
بن عازب أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل
الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ) أي بصلاتكم قبل ذلك
إلى بيت المقدس، لأنكم أتيتم بما أمرتم به، وإيمانكم هو الذي جعلكم تأتون بما
أمرتم، فمن مات قبل التحويل فقد مات على إيمانه، ولا ينقص ذلك من إيمانه شيئا (إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) الرأفة رفع المكروه وإزالة
الضرر، والرحمة الإحسان وجلب النفع.
البقرة 144 أمر
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم باستقبال الكعبة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاء) قد للتحقيق، وذكر
بعض النحاة أن قد تقلب المضارع ماضيا، أي قد رأينا، أو كثيرا ما نرى تردد وجهك
وتصرُّف نظرك إلى جهة السماء، وكان النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنّها قبلة أبيه إبراهيم، ولأنَّها
أقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد
ويتبع قبلتنا (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) أي تحبها (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ) أي نحوَ أو قِبَلَ (الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ) أي الكعبة (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ) أي اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي التحويل (الْحَقُّ
مِن رَّبِّهِمْ) لأنّهم يعلمون أنه
هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، ولا يأمر إلا بالحق (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعيد وتَهديد.
البقرة 145 عناد
أهل الكتاب وتعصبهم: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ
بِكُلِّ آيَةٍ) دالة على صدقك (مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ) لأنَّهم إنما يخالفونك لمحض
العناد والكبرياء، جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط لاجتماعهما وتقدم القسم (وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي لا يتبع اليهود قبلة النصارى،
ولا النصارى قبلة اليهود (وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً
لَّمِنَ الظَّالِمِينَ).
البقرة 146 معرفة
أهل الكتاب بصفة النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: (الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) أي علماء اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) أي محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بنعوته وأوصافه التي قرؤوها في التوراة والإنجيل (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ) بحيث لا يلتبس عليهم، كما لا
يلتبس عليهم أبناؤهم بغيرهم، وذُكر عن عبد الله بن سلام، وكان من كبار علماء
اليهود، فشهد شهادة الحق، وأسلم وحسن إسلامه، قال: أنا أعلم به مني بابني، يعني
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال له عمر: لِمَه؟ قال: لأني
لست أشك بمحمد أنه نبي، أما ولدي فلعل والدته خانت، يعني لا أشك بنبوته، أما ولدي
فأشك ببنوته، وليس المعنى أنه يشك بشخصه، فإنه يعرف ابنَه لا محالة (وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ) ليخفون (الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) لأنّهم قرؤوه في التوراة
والإنجيل (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكين أو
المترددين في كتمانِهم للحق.
البقرة 148 وجوب
استقبال الكعبة للصلاة: (وَلِكُلٍّ) أي لكل أهل ملة (وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيهَا) أي مستقبلها (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) يعني فلا سبيل إلى اجتماعكم مع
اليهود والنصارى على قبلة واحدة، فدعوا التنازع، وبادروا إلى ما يحصل به السعادة
في الدارين من الخيرات والأعمال الصالحة (أَيْنَ
مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا) أي يحشركم إليه يوم القيامة للحساب والجزاء (إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (وَمِنْ حَيْثُ) أي من أي موضع (خَرَجْتَ
فَوَلِّ وَجْهَكَ) أي من ذلك الموضع في
صلاتك (شَطْرَ) أي جهة (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي الكعبة (وَإِنَّهُ) أي صرفُك من استقبال بيت المقدس إلى الكعبة (لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) أي الذي يرعاك ويدبر أمرك، فتوكل عليه (وَمَا
اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيها وعد للمؤمنين ووعيد وتَهديد للكافرين.
البقرة 150 استقبال
الكعبة من إتمام النعمة: (وَمِنْ حَيْثُ) أي من أي موضع (خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ) أي الكعبة (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي جهته من ذلك الموضع في صلاتكم
(لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) لأن اليهود كانوا يقولون:
يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا، وأيضا قالوا: النبي المنعوت في التوراة قبلته الكعبة؛
والمشركون كانوا يقولون: يدعي محمد أنه على ملة إبراهيم، ويخالف قبلته (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ) يعني: تكون لهم الحجة عليكم
عنادا وكبرياءً: فيقول اليهود: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده،
ويقول المشركون: لقد رجع محمد إلى قبلة آبائه، يوشك أن يرجع إلى دينهم (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) أي خافوني ولا تخافوهم (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي بإكمال شرائع الدين (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي ولتهتدوا إلى سعادة الدارين.
البقرة 151 الحث
على الذكر شكرا للنعمة: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً
مِّنكُمْ) أي من أنفسكم وبلسانكم
(يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا) أي الدالة علينا (وَيُزَكِّيكُمْ) يطهركم من أنجاس الشرك وأرجاس الشُّبُهات وقاذورات الشهوات (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي دقائق الكتاب وأسراره، وفسرت بالسنة لأنّها المبينة للكتاب (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) أي مما لا سبيل لكم إلى معرفته
إلا من جهة الوحي، أي كما أرسلت فيكم الرسول (فَاذْكُرُونِي) أي بالطاعة، ذكرا باللسان
وبالقلب وبالجوارح (أَذْكُرْكُمْ) أي بالثواب، وفي الصحيح: " من
ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم " (وَاشْكُرُواْ لِي) أي ما أنعمت به عليكم (وَلاَ
تَكْفُرُونِ) أي لا تكفروني بجحد
نعمتي وعصيان أمري.
البقرة 153 فضل
الصلاة والصبر، والشهادة في سبيل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اسْتَعِينُواْ) أي على تبليغ الحق،
وعلى الذكر والشكر وسائر الطاعات (بِالصَّبْرِ) وهو حبس النفس على الطاعات،
وحبسها عن المعاصي، وحبسها عن الجزع عند البلاء والمصيبة، والجزع هو الظن السيئ،
وهو ضد الرضا (وَالصَّلاَةِ) لأنّها تصل القلبَ بفاطره
ومولاه، فيحصل له كمال التوكل عليه (إِنَّ
اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي بعونه ونصرته.
البقرة 154 فضل
الشهادة في سبيل الله: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ
اللّهِ) أي في طاعته وإعلاء
كلمته (أَمْوَاتٌ) أي هم أموات (بَلْ) هم (أَحْيَاء) وفي صحيح مسلم: " أرواحهم في جوف طير خُضر، لها قناديل معلقة بالعرش،
تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل " (وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) أي لا تحسون ولا تدركون ذلك لأنه
من أمور الغيب.
البقرة 155 تبشير
الصابرين على البلاء: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) اللام موطئة للقسم (بِشَيْءٍ) أي بقليل (مِّنَ الْخَوفْ) أي من العدو (وَالْجُوعِ) أي أسبابه من القحط أو غيره (وَنَقْصٍ
مِّنَ الأَمَوَالِ) بِهلاك المواشي (وَالأنفُسِ) بذهاب الأحبة بالقتل أو الموت (وَالثَّمَرَاتِ) أي بإتلافها أو بعدم الإثمار (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الجملة معطوفة على ما قبلها، من باب عطف المضمون على المضمون، بصرف النظر
عن الخبرية والإنشائية (الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ) أي نحن له، وله ما أخذ منا، وله
ما أعطى، وكل ما بأيدينا عوارٍ مستودعة، سيرثه الله منا (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) أي يوم القيامة، فيحاسبنا على
تصرفنا في نعمه (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ) أي ثناءٌ بعده ثناء (مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) إحسان (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أي للحق ولكل خير.
البقرة 158 ما
جاء في مناسك الحج والعمرة: (إِنَّ الصَّفَا) الصفا في الأصل: الحجر الأملس،
واحده صفاة، كحصى وحصاة، (وَالْمَرْوَةَ) في الأصل الحجر الأبيض اللين، ثم
صارا علمين لجبلين بمكة، وقد صارا اليوم داخل المسجد الحرام (مِن شَعَآئِرِ اللّهِ) جمع شعيرة، وهي العلامة، أي من أعلام دينه ومناسكه التي تعبدنا بِها (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) الحج القصد إلى معظم، أي قصد البيت لأداء المناسك (أَوِ اعْتَمَرَ) العُمرة هي الزيارة (فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِ) أي لا إثم عليه في (أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، وأصل الجناح: الميل، ومنه " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا) من الطاعة، أي انقاد خيرا، أي آتيا خيرا أو آتيا بخير (فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ) أي يثيبه على عمله (عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء من أعمال
الناس.
وكان سبب تحرج الصحابة من الطواف بين الصفا والمروة، ما ثبت في صحيح مسلم
من حديث عائشة قالت: ما أتم
الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر،
يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاء
الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، قالت: فأنزل الله
عز وجل (إن الصفا والمروة من شعائر الله) إلى آخرها.
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: إنما كان من أهل بِمَنَاةَ
الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ، لا يطوفون بين الصفا والمروة، "أي في
الجاهلية" فأنزل الله تعالى (إن الصفا
والمروة من شعائر الله) فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. وعلى هذا فقد كانوا في
الجاهلية فريقين: فريق لا يطوفون بين الصفا والمروة، على هذه الرواية، وفريق آخر
يطوفون، على ما تقدم في رواية مسلم، والله أعلم.
وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ يُقَالُ
لَهُ: إِسَافٌ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ يُقَالَ لَهُ: نَائِلَةُ، وَكَانَ
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا طَافُوا بَيْنَهُمَا مَسَحُوهُمَا، فَلَمَّا
أَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ، كَرِهُوا الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لِمَكَانِ الصَّنَمَيْنِ،
لِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ). وهذا مخالف لما قدمناه في
الصحيحين وفي صحيح مسلم من حديث عائشة، ولا يمتنع أن تكون كلها أسبابا واردة، جعلت
الصحابة يتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة. والله أعلم.
البقرة 159 وعيد
العلماء على كتمان الحق: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) يخفون (مَا أَنزَلْنَا) أي على أنبيائنا (مِنَ
الْبَيِّنَاتِ) أي الآيات البينات،
وهي الواضحة الدالة على الحق، ومن ذلك ذكر صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التوراة والإنجيل (وَالْهُدَى) أي أسبابه، وهو من العام بعد
الخاص (مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتَابِ) أي في التوراة
والإنجيل (أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ) يبعدهم من رحمته، ويذيقهم من
نقمته (وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) أي من يتأتى منهم اللعن من
الملائكة والإنس والجن، والمراد: يدعون عليهم بالإبعاد (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ) أي ما أفسدوا بالتدارك (وَبَيَّنُواْ) أي ما كتموه (فَأُوْلَئِكَ
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أقبل توبتهم (وَأَنَا التَّوَّابُ) الذي يقبل التوبة عن عباده (الرَّحِيمُ) يقابل الذنوب بالإحسان. وهذا
الوعيد يقع على كل عالم كتم الحق مقابل ثمن قليل وأجر زهيد يأخذه، وأما من كتمه خوفا
على نفسه فلا.
البقرة 161
وعيد الكافرين: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين كتموا الحق وكفروا
النعمة، وعبر عن الكتمان بالكفر، نعيا عليهم به (وَمَاتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ) وهذه الآية اشتملت
على الجمع والتفريق، جمعت الكاتمين في حكم واحد: وهو أنّهم ملعونون مبعدون، ثم
فرقت: بأن من تاب قد تاب الله عليه وأزال عنه عقوبة اللعنة، وأما الذين ماتوا على
الكتمان ولم يتوبوا فَـ(أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي قد ثبتت عليهم اللعنة (خَالِدِينَ فِيهَا) أي في اللعنة، أو في النار لحضورها في الذهن وإن لم تُذكر، لأن لعنهم
وإبعادهم عن الرحمة يستلزم دخول النار (لاَ
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ) لا يُمهَلون عن العذاب ولا
يؤخرون عنه ساعة.
البقرة 163 دلائل
الوحدانية والربوبية والقدرة: (وَإِلَهُكُمْ) أي الذي يستحق العبادة (إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) ولا نظير ولا شبيه له في ذاته
ولا في صفاته ولا في أفعاله (الرَّحْمَنُ
الرَّحِيمُ) ومن رحمته أمدَّ
مخلوقاته بالنعم (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) (وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي تعاقبهما وكون كل منهما خلَفا
للآخر، أو اختلاف كل واحد منهما في نفسه زيادة ونقصانا وظلمة ونورا (وَالْفُلْكِ) أي السفن العظام (الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) (وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن
مَّاء) أي من جهة السماء (فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) أي بالإنبات بعد يُبسها (وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ) أي من كل نوع من الدواب (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي تقليبها جنوبا وشَمالا وقَبولا ودَبورا، حارة وباردة، وعاصفة ولينة (وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) بحيث لا ينْزل ولا يصعد، لأن
العادة تقتضي صعوده إن كان لطيفا، وهبوطه إن كان كثيفا (لآيَاتٍ) أي علامات دالة على وحدانيته وكمال قدرته وربوبيته للأكوان (لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يتفكرون، فالعقل مجاز عن الفكر الذي هو ثمرته.
البقرة 165 وعيد
من يتخد الأنداد من دون الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللّهِ أَندَاداً) أي أمثالا، والمراد
بِها الأصنام التي يعبدها المشركون، أو الرؤساء والطواغيت الذين يطيعونَهم طاعةَ
الأرباب (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ) أي كحب المؤمنين لربِّهم، يعني
يعظمونَهم ويطيعونَهم (وَالَّذِينَ
آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ) لأن محبة المؤمن لربه وطاعته له دائمة، بخلاف المشركين فإنّهم يتبرؤون من
أصنامهم عند الشدائد، حيث يرون أن لا منفعة ترجى منها، وربما عوضوها، ويحكى عن
أقوام من المشركين أنّهم أصابَهم القحط، وكانت عندهم أصنام مصنوعة من تمر،
فأكلوها، فلم ينتفع قوم بأصنامهم ما انتفع هؤلاء بِها، فأذاقهم الله بالقحط حلاوة
الكفر، ويا لها من حلاوة.
(وَلَوْ يَرَى) أي يعلم (الَّذِينَ ظَلَمُواْ) أي أشركوا، لأنّهم وضعوا العبادة في غير موضعها وصرفوها لمن لا يستحقها (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) أي الذي ينتظرهم يوم القيامة (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) ساد مسدَّ مفعولي
"يرى" (وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) معطوف على الجملة المتقدمة،
والجواب محذوف تقديره: لتركوا ما هم عليه من الباطل واستمسكوا بالحق، أو لوقعوا
فيما لا يكاد يوصف من الحسرة والندامة، وقرأ نافع: "ولو ترى"، والخطاب هنا على الراجح: لكل مستمع: والجواب حينئذ: لرأيت أمرا لا
يوصف من الهول والفظاعة.
البقرة 166 تبرؤ
المتبوعين من التابعين يوم القيامة: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ
الَّذِينَ اتَّبَعُواْ) بدل من "إذ يرون العذاب" (وَرَأَوُاْ
الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) أي تقطعت الأسباب التي كانوا يرجون منها النجاة، وهي الوُصَلُ التي كانت
بينهم في الدنيا، من النسب والمحبة والاتفاق على الدين؛ والباء للملابسة، والتقدير
تقطعت الأسباب موصولةً بِهم (وَقَالَ
الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً) أي لو كانت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا) المضارع منصوب بأنْ مضمرةً وجوبا بعد الفاء (كَذَلِكَ) أي كما ندموا بتبرؤ المتبوعين (يُرِيهِمُ
اللّهُ أَعْمَالَهُمْ) أي السيئة (حَسَرَاتٍ
عَلَيْهِمْ) مفعول ثالث ليُرِي (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) فعند ذلك تشتد ندامتهم وحسرتُهم،
حيث لا تنفعهم حسرة ولا ندامة.
البقرة 168 الحث
على أكل الحلال واجتناب الحرام: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ
مِمَّا فِي الأَرْضِ) أي حالَ كونه (حَلاَلاً) أحله الشرع (طَيِّباً) أي يستلذه ويشتهيه الطبع السليم،
ولم يحرمه الشرع، وعلى هذا فكل طيب حلال، ما لم يرد دليل الحرمة (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي فتحرموا الحلال، أو تحللوا
الحرام (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) أي ظاهر العداوة، لكنه يُظهر
الولاية لمن يريد إغواءه (إِنَّمَا
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) أي المعاصي لأنّها تسوء صاحبها في الحال والمآل (وَالْفَحْشَاء) أقبح المعاصي وأعظمها مساءة (وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) فتفتروا على الله الكذب بغير علم.
البقرة 170 اقتداء
الكفار بآبائهم في الشرك: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ) العدول من الخطاب إلى الغَيْبة
للتنبيه على أنّهم لفرط جهلهم ليسوا أهلا للخطاب (اتَّبِعُوا
مَا أَنزَلَ اللّهُ) من الحق وتوحيد الله
بالعبادة (قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا) أي وجدنا (عَلَيْهِ آبَاءنَا) أي من عبادة الأصنام (أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً) يعني أيتبعونَهم ولو كانوا جهلة (وَلاَ
يَهْتَدُونَ) أي إلى الحق، ويجوز
أن تكون الواو عاطفة، كأنه قال: أيتبعونَهم على ما هم عليه من الباطل لو كانوا
عاقلين مهتدين ولو لم يكونوا كذلك. وهؤلاء غير معذورين في تقليدهم لآبائهم، لأن
الشرك تأباه الفطر السليمة والعقول الصحيحة، فكيف وقد بُلِّغوا بالشريعة النبوية،
وأما في فروع الشريعة فقد قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
البقرة 171 تشبيه
الكفار بالبهائم: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) أي صفتهم في إعراضهم عن سماع
الحق واتباعه، أو مثل من يدعوهم وهم معرضون عنه (كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً) أي كمثل الراعي الذي يصيح
بالبهائم التي لا تسمع إلا دَوِيَّ الصوت، ولا تفهم ما يقال لها، وعلى الأول:
مثلهم كمثل البهائم (صُمٌّ) هذا تشبيه بليغ لذكر طرفي
التشبيه، أي هم صم لأنّهم لا يسمعون الحق (بُكْمٌ) لأنّهم لا ينطقون بالحق (عُمْيٌ) لأنّهم لا ينظرون إلى ما يدلهم على الحق، كما قال تعالى: (وكأين من آية
في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)، فهم إذ لم ينتفعوا بِهذه الحواس
كأنّهم فاقدوها (فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) الفاء سببية، أي لا يدركون شيئا.
البقرة 172 بيان
المحرمات من الذبائح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ
مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي المستلذات مما أحله الله، يعني ولا تحرموا الطيب أو تحلوا الخبيث كحال
الكافرين (وَاشْكُرُواْ لِلّهِ) أي على ما أنعم به عليكم (إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ولا يكون شاكرا إلا إذا عرف قدر
النعمة، وعرف من أنعم بِها عليه، وأطاعه فيما أمر ونَهى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي أكلها، وهي التي ماتت من غير
ذَكاةٍ شرعية، باستثناء ميتة السمك والجراد (وَالدَّمَ) أي المسفوح (وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ) أي مع بقية أجزائه (وَمَا
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ) أي ما رُفع الصوت متلبسا بذبحه لغير الله، أي ذكر عليه غير اسم الله، (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي إلى الأكل مما ذكر (غَيْرَ
بَاغٍ) أي ظالم (وَلاَ عَادٍ) أي متجاوز ما يسد به رمقه، وعن مالك: يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد
غنى طرحها (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فلا يؤاخذكم بما اضطُررتم إليه.
البقرة 174 وعيد
أهل الكتاب على كتمان الحق: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ
اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ) أي التوراة (وَيَشْتَرُونَ
بِهِ) ويأخذون بدله (ثَمَنًا قَلِيلاً) وهو ما يتقاضاه من الأجر على منصبه (أُولَئِكَ
مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ) لأن ما يأكله من الحرام يكون سببا في النار (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي كلام رحمة ورضا (وَلاَ يُزَكِّيهِمْ) لا يطهرهم من دنس الذنوب (وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ) أي استبدلوا (الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى) أي في الدنيا (وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ) أي يوم القيامة (فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي ما أعظم صبرَهم عليها، وهو
تعجيب من ارتكابِهم موجِِباتِها، وإلا فلا صبرَ لهم عليها (ذَلِكَ) أي العذاب (بِأَنَّ) أي بسبب أن (اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ) أي التوراة، متلبسا (بِالْحَقِّ) (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي
الْكِتَابِ) فآمنوا ببعضه وكفروا
ببعض (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) أي خلاف بعيد عن الحق.
البقرة 177 شعب
الإيمان: (لَّيْسَ الْبِرَّ) كذا قرأ حفص عن عاصم وحمزة، والباقون: "البرُّ" بالرفع؛ والبر
كلمة جامعة لأنواع الخير والطاعات والقربات (أَن
تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي ليس البر مختصا بشأن القبلة،
حيث أكثرتم الخوض فيها، وادعى كل طائفة حصر البر على قبلته، وكانت اليهود تصلي إلى
بيت المقدس جهة المغرب، وكانت النصارى تصلي قبل المشرق (وَلَكِنَّ
الْبِرَّ) بِرُّ (مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ) أي جنس الكتاب، فيشمل جميع الكتب الإلهية (وَالنَّبِيِّينَ) من غير تفريق بين أحد منهم. وقرأ نافع: "ولَكِنِ البرُّ". (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أي كائنا على حب المال، يعنى
أعطى المال وهو يحبه، وفي الصحيح: " أفضل الصدقة أن تَصَدَّق وأنت صحيح حريص
" (ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ) سُمِّي مسكينا لأن
الحاجة أسكنته (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي المسافر لملازمته الطريق في
السفر (وَالسَّآئِلِينَ) وفي سنن أبي داود ومسند أحمد من
حديث حسين بن علي قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: " للسائل حق وإن جاء على فرس " (وَفِي الرِّقَابِ) أي في تخليص الرقاب وفكاكها، بمعاونة المكاتبين أو فك الأسارى (وَأَقَامَ الصَّلاةَ) أداها بشروطها وآدابِها (وَآتَى
الزَّكَاةَ) أي الصدقة التي يزكو
بِها مالُه، أي أعطاها مستحقيها. (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ
إِذَا عَاهَدُواْ) العهد هنا يشمل حقوق الحق سبحانه وحقوق الخلق (وَالصَّابِرِينَ) منصوب على المدح والاختصاص: أي أخصهم بالذكر أو أمدحهم (فِي الْبَأْسَاء) البؤس والفقر (والضَّرَّاء) أي السقم والوجع (وَحِينَ الْبَأْسِ) في وقت القتال وجهاد العدو (أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانِهم (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي الذين اتقوا عذاب الله بإتيان
أوامره واجتناب مناهيه.
البقرة 178 الديات
والقصاص: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ) أي فُرض وأُلزم، أي إذا طالب به
صاحب الحق، وأصل الكتابة الخط، ثم كني به عن الإلزام (الْقِصَاصُ) قاصَّه قِصاصا ومُقاصَّةً: أي جازاه وفعل به مثل ما فعل (فِي الْقَتْلَى) أي بسببهم (الْحُرُّ) يُقتصُّ أو يقتل (بِالْحُرِّ) (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) (وَالأُنثَى بِالأُنثَى) روي أنّهم في الجاهلية، كان يكون بين حيين منهم دماء، فإذا كان لحي منهم
طَوْلٌ على الآخر، يُقسمون لنقتلن منهم الحر بالعبد والذكر بالأنثى، فنَزلت الآية،
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم قتل رجلا يهوديا بامرأة قتلها، وعلى هذا فما ورد في الآية وارد على سبب
خاص، ولأن القصاص العادل يقتضي أن يقتل القاتل بجريرته لا غيره، وللحديث الصحيح:
" المؤمنون تتكافأ دماؤهم "، وهذا واضح.
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) المراد بالأخ ولي الدم،
والمطالِب بالقصاص، سماه أخا استعطافا بتذكير أخوة البشرية عامة، وأخوة الإيمان
خاصة، أي فمن تجاوز له أخوه عن شيء، بأن أسقط القصاص ورضي بالدية (فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ) بأن لا يشدد على
القاتل في طلب الدية، وينظره إن كان معسرا، ولا يطالبه بالزيادة عليها (وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) بأن يدفعها كاملة عند الإمكان
ولا يبخس منها شيئا، ولا يُمطِل صاحب الحق بِها (ذَلِكَ) أي تشريع الدية وإسقاط القصاص (تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي وإحسان إلى هذه الأمة، وكان
في اليهود القصاص ولم تكن دية، وكان في النصارى الدية ولم يكن قصاص، فخفف الله على
هذه الأمة وخيرها بين الدية والقصاص.
(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) بأن قتل القاتل بعد أن عفا ورضي
بالدية (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة، أو في الدنيا، فقد
ورد أنه يقتل ولا تقبل منه الدية، (وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) التنوين فيه للنوعية والتعظيم، لأن القاتل إذا علم بأنه إذا قتل يقتل،
فإن ذلك أردع له عن الوقوع في القتل، بخلاف أن لو كان الدية وحدها هي المشروعة،
وكانوا يقولون: "القتل أنفى للقتل"، ولكن ليس كل قتل أنفى للقتل، وعبارة
القرآن أبلغ بكثير، والله الأعلى والأجل (يَاْ
أُولِيْ الأَلْبَابِ) أي ذوي العقول
السليمة الخالصة عن شائبة الهوى (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أي تتقون ربكم
باجتناب ما يفضي بكم إلى القتل أو العذاب.
البقرة 180 الوصية للوالدين من المنسوخ: (كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسباب الموت وأماراته من العلل والأمراض المخُوفة (إِن تَرَكَ خَيْرًا) أي مالا كثيرا (الْوَصِيَّةُ) اسم من أوصى يوصي، أوصاه بكذا:
عهد إليه فيه، وأوصى له بكذا: جعله له يأخذه بعد موته (لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) وهذا الحكم كان في أول الأمر، ثم
نسخ بآية المواريث، وبقي استحباب الوصية للأقارب الذين لا يرثون (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالعدل، بحيث لا يكون بٍها إضرار بالورثة، فلا ينبغي للوصية أن تتجاوز
الثلث (حَقًّا) أي حُقَّ ذلك حقا، فهو مصدر مفعول مطلق، حذف عامله وجوبا (عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي المؤمنين، والتعبير بالمتقين للدلالة على أن المحافظة عليها من شأن
المتقين الخائفين من الله عز وجل.
البقرة 181 وعيد
من بدل الوصية لا بقصد الإصلاح: (فَمَن بَدَّلَهُ) أي الإيصاء "الوصية"
من شاهد أو وصي، إما بإنكار الوصية كلها، أو تبديل شيء منها (بَعْدَمَا سَمِعَهُ) أي علمه، لأن السماع طريق العلم (فَإِنَّمَا
إِثْمُهُ) أي التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي الإيصاء "الوصية" (إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيجازي كلا بعمله (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ) أصله موصِي، اسم منقوص، تحذف ياؤه في حالتي الرفع الجر، إذا لم تدخل عليه
"أل" (جَنَفًا) أي ميلا أو جورا في الوصية من غير قصد، بقرينة: (أَوْ إِثْمًا) لأن الإثم يكون على من قصد دون من أخطأ (فَأَصْلَحَ
بَيْنَهُمْ) أي بين الموصَى لهم بإجرائهم
على نَهج الشرع، أو بإلغاء الزيادة في الوصية (فَلاَ
إِثْمَ عَلَيْهِ) أي بتبديله، لأنه
بدل باطلا بحق، أو فقد ارتفع الإثم على الموصي بتعديل وصيته، إذا كان قد فعل ما
فعل عمدا، وهذا أنسب بقوله: (إِنَّ
اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
البقرة 183 أحكام
الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ) هو في اللغة
الإمساك، ومنه قيل للصمت: صوم، لأنه إمساك عن الكلام، وفي الشرع: فسر في الحديث
الصحيح: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي"
والمراد بالشهوة الجماع وما يكون به الاستمناء، من أجلي أي بالنية (كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) أي على كل الأمم، أو على أهل الكتاب خاصة، والمراد المماثلة إما في أصل
الوجوب، وإما في الوقت والمقدار (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أي لتتقوا المعاصي،
فإن الصيام يعقم الشهوة التي هي سبب المعاصي، أو يكسرها، وفي الحديث الصحيح:
"الصيام جنة" لأنه يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) أي معيَّناتٍ بالعد أو قليلات، لأن القليل يسهل عده، وهي أيام شهر رمضان.
(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا) مرضا يجد معه مشقة الصيام (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) أي مسافرا (فَعِدَّةٌ
مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر في أيام أخر إن أفطر (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي الذين يقدرون عليه إن أفطروا (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) وكان ذلك في أول الأمر، ففي
الصحيحين من حديث سلَمة بنِ الأكوع قال: لما نزلت كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى
نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وفي صحيح البخاري من حديث نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَرَأَ (فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) قَالَ هِيَ
مَنْسُوخَةٌ. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أنه قرأ "وَعَلَى الَّذِينَ
يُطَوَّقُونَهُ فَلا يُطِيقُونَهُ" قال ابن عباس ليست بمنسوخة، هو الشيخ
الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا) بأن زاد على القدر الواجب في الفدية، وهو مد من تمر أو حنطة، أو بأن يطعم
أكثر من مسكين عن كل يوم (فَهُوَ
خَيْرٌ لَّهُ) (وَأَن تَصُومُواْ) أي الأصحاء المقيمون (خَيْرٌ
لَّكُمْ) من إعطاء الفدية (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ما في الصيام من الفضائل التي لا ينبغي أن تفوتوها على أنفسكم.
والحاصل مما تقدم: أن إباحة الفطر للقادرين مع إعطاء الفدية كان في أول الأمر ثم
نسخَ، ويبقى الحكم ثابتا للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، يفطران إذا شاءا ويطعمان
عن كل يوم مسكينا، وذهب مالك إلى عدم وجوب الفدية عليهما؛ وأما الحُبلى والمرضع
فهما على الراجح بمنْزلة المريض والمسافر تفطران وتقضيان، وإذا عجزتا عن القضاء
أطعمتا عن كل يوم مسكينا مدا من حنطة أو تمر.
البقرة 185 نزول
القرآن في شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) أي ابتدئ فيه
إنزاله، وكام ذلك في غار حراء حيث نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) الآيات، ففي مسند أحمد من حديث
واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم قال: " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست
مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت
من رمضان"، وعن ابن عباس: نزل إلى السماء الدنيا جملة، ثم نزل منجما إلى
الأرض في ثلاث وعشرين سنة (هُدًى
لِّلنَّاسِ) أي هداية لهم (وَبَيِّنَاتٍ) أي آيات واضحات (مِّنَ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) أي من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل.
البقرة 185 أحكام
الصيام: (فَمَن شَهِدَ) أي حضر (مِنكُمُ الشَّهْرَ) أي في الشهر، ولم يكن مسافرا، (فَلْيَصُمْهُ) أي فليصم فيه، أو من علم هلال الشهر فليصم، وهذه الآية نسخت السابقة،
فصار الصيام هو الواجبَ على الأصحاء (وَمَن
كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) كرر حكم المريض والمسافر لئلا
يتوهم نسخُه (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فلذلك شرع لكم الرخص (وَلِتُكْمِلُواْ
الْعِدَّةَ) علة لمحذوف دل عليه
مساق الكلام، أي وشرع لكم ما شرع، ورخص لكم ما رخص لتكملوا العدة (وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) المراد بالتكبير الحمد والثناء، وعن
ابن عباس أن التكبير عند رؤية الهلال (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي ولتكونوا من
عباده الشاكرين لنعمه بامتثال أوامره.
البقرة 186 استنْزال
رحمة الله بالدعاء: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) أي عن قربي وبعدي منهم، وقد روي
أن المسلمين قالوا: يا رسول الله أقريب ربُّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل
الله الآية (فَإِنِّي قَرِيبٌ) منهم أي بعلمي مطلع على كل
أحوالهم لا تخفى علي خافية، أي فقل لهم إني قريب، ولم يصرح به هنا كما في غيره من
الآيات، للإشارة إلى أنه تعالى تكفل بجوابِهم ولم يكل ذلك إلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، للتنبيه على كمال لطفه بِهم (أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ) إذا دعاني بقلب ضارع غير غافل مع عدم وجود الموانع كأكل الحرام وقسوة
القلب، وقد يستجيب الله دعوة عبده ولكن بصرف ما يسوؤه عنه أو بادخارها له في
الآخرة كما صرحت بذلك الأحاديث (فَلْيَسْتَجِيبُواْ
لِي) أي فيما دعوتُهم إليه من الطاعات
(وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي يهتدون إلى مصالح دينهم
ودنياهم.
البقرة 187
أحكام الصيام: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَآئِكُمْ) رفث وأرفث في كلامه:
أفحش وأفصح عما يُكنى عنه، والمراد الجماع، لأنه في الغالب لا يخلو عن إفصاح (هُنَّ لِبَاسٌ) أي سكَن (لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ) أي سكن (لَّهُنَّ) وشُبِّها باللباس لأن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه من الفجور (عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ
أَنفُسَكُمْ) أي تظلمونَها
بتعريضها للعقاب وحرمانِها من الثواب، وذلك أنّهم كانوا في أول الأمر إذا نام
الرجل ليلا حرُم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فاختان رجل نفسه
فجامع امرأته، فنَزلت الآية (فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ) (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) أي في الليل كله (وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ) أي اطلبوا الولد، وتحروا حفظ
النسل، لا قضاء الشهوة فقط، وفي التعبير بما كتب الله، إشارة إلى أنه إذا قدر
الولد لم يمنعه عزل أو غيره.
(وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ) الأمر للإباحة الليلَ كله (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) يظهر (لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ) أي ضوء النهار، وهو أول ما يبدو
من الفجر الصادق المعترض في الأُفُق (مِنَ
الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) أي ظلمة الليل (مِنَ
الْفَجْرِ) بيان للخيط الأبيض؛
روى الشيخان من حديث عدي بن حاتم قال: لما نزلت الآية عمدت إلى عِقال أسود وإلى عِقال
أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول
الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إنما ذلك
سواد الليل وبياض النهار. ورويا أيضا من حديث سهل بن سعد قال: أنزلت الآية، ولم ينْزل
"من الفجر" فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض
والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد "من الفجر"
فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار (ثُمَّ
أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) فيه دليل على أن الليل يبدأ من غروب الشمس، وتلك الليلة ليلة الغد وليست
ليلة اليوم.
البقرة 187 من
أحكام الاعتكاف: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ) أي النساء (وَأَنتُمْ
عَاكِفُونَ) أي معتكفون (فِي الْمَسَاجِدِ) والمراد بالمباشرة الجماع، وليس المراد النهي عن مطلق المباشرة، ففي
الصحيحين من حديث عائشة قالت: كان النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فأغسله وأنا حائض (تِلْكَ) أي ما ذكر من الأحكام (حُدُودُ
اللّهِ) أي الحاجزة بين الحق
والباطل (فَلاَ تَقْرَبُوهَا) (كَذَلِكَ) أي مثل هذا التبيين (يُبَيِّنُ
اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ) أو كذلك سنتُه سبحانه أن يبينَ للناس، ولا يتركَهم فيضِلوا عن الطريق
السوي (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي مخالفة أوامره ومراضيه أو
إتيان مناهيه ومساخطه.
البقرة 188
من أحكام الأموال: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم) أي لا يأكلْ بعضُكم مال بعض (بِالْبَاطِلِ) أي الحرام، كالغش والسرقة والغصب وكل سبب محرم، والمعنى: لا يأخذ بعضكم
مال بعض بغير حق، وعبر بالأكل لأنه أهم المطالب، وبه يحصل إتلاف المال غالبا (وَتُدْلُواْ) أي تلقوا (بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) أي على جهة الرشوة، والإدلاء في
الأصل إرسال الحبل في البئر، ثم استعير للتوصل إلى الشيء المطلوب (لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا) أي قطعة (مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ) أي ما يوجب الإثم كشهادة الزور
واليمين الفاجرة (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم مبطلون، وأن ما تأخذونه ليس
لكم.
البقرة 189 الخلق:
الهلال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ) جمع هلال، يسمى به القمر في
ليلتين أو ثلاث من أول الشهر، لأنه حين يُرى يُهِلُّ الناس بذكره أو بالتكبير،
ومنه استهل الصبي: إذا بكى وصاح حين يولد، وأهل بالحج إذا رفع صوته بالتلبية؛ روي
أنّهم سألوا رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يستوي ويستدير،
ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟
فأنزل الله الآية (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ) أي أن ذلك جعله الله
معالم للناس، يوقتون بِها أمورهم الدينية الدنيوية، ولو كان مدورا كالشمس لم يتيسر
التوقيت به.
البقرة 189
اتباع الشريعة وترك ما عليه أهل الجاهلية: (وَلَيْسَ الْبِرُّ) ما يتقرب به إلى الله من الأعمال
الصالحة (بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا) أخرج الشيخان من حديث البراء بن
عازب قال: كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، فجاء رجل
من الأنصار فدخل من بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك، فنَزلت الآية (وَلَكِنَّ الْبِرَّ) بِرُّ (مَنِ اتَّقَى) أي المحارم وعمل بالطاعات، أو ولكن ذا البر، أي البار، من اتقى، وقرأ
نافع: "ولكِنِ البرُّ" (وَأْتُواْ
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) (وَاتَّقُواْ اللّهَ) أي عذابه، باتباع ما يأمركم
واجتناب ما ينهاكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لتظفروا بما تحبون وتنجوا مما
تكرهون.
البقرة 190 أمر
المسلمين بقتال من يقاتلهم: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) أي لإعزاز دينه وإعلاء كلمته (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) وهذا في أول الأمر كما قال تعالى
"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" ثم أمروا بقتال الكفار كافة لتبليغ
الرسالة (وَلاَ تَعْتَدُواْ) بقتل النساء والصبيان والشيوخ
ومن ألقى إليكم السلم، أو قتال المعاهَد، أو قتل غير المحارب مفاجأة من غير دعوة،
وكل من نُهيتم عن قتله (إِنَّ اللّهَ
لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي مكة (وَالْفِتْنَةُ) أي شركهم في الحرم، أو المحنة التي يفتتنون بِها بإخراجهم من الوطن
المحبب (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي من قتلهم (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ
كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ).
(فَإِنِ انتَهَوْاْ) عن الكفر أو القتال (فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فيغفر لهم ما قد سلف (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ) خالصا (لِلّهِ) (فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ
عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فلا عقوبة عليهم
لأن العقوبة على الظالمين، والمنتهون ليسوا منهم، وسمى المعاقبة عدوانا مشاكلة في
اللفظ (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرَامِ) كما هتكوا حرمته
بقتالكم فيه، وذلك زمن الحديبية، فلا تتحرجوا من قتالهم فيه، وكان ذلك في عمرة
القضاء من العام المقبل (وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ) أي ذوات قصاص، أي
يجري فيها القصاص (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) والأمر للإباحة، إذ العفو جائز (وَاتَّقُواْ
اللّهَ) أي بترك الاعتداء (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بنصره وعونه.
البقرة 195 فضل
النفقة في الجهاد: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي بترك الغزو
والقتال وإنفاق المال فيه، روى أبو داود والترمذي وصححه من حديث أبي عمران التُّجيبي
قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه،
لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية
فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام، قلنا: هَلُمَّ نقيم في
أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم
في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل
الله حتى دفن بالقسطنطينية (وَأَحْسِنُوَاْ) أي إلى المحتاجين، أو أحسنوا في
كل أعمالكم (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فيثيبهم بجزيل الأجر والثواب.
البقرة 196 ما
جاء في الحج والعمرة: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) أي بعد الشروع في أدائهما (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) منعتم من إتمامهما، واضطررتم إلى التحلل (فَمَا اسْتَيْسَرَ) أي فعليكم ما تيسر (مِنَ
الْهَدْيِ) تذبحونَه، أي
المهدي، وأقله شاة قال ابن عباس: الشاة تجزي، رواه البخاري (وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ) لأن الحلق هو آخر النسك قبل التحلل
(حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي من الحرم، والظاهر أنه لا
يذبح هديه حيث أُحصر، ولقوله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق) ولكن قد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحر هديه بالحديبية يوم أحصر
بِها، وهي من الحل، ويحمل بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه حِلا كان أو
حرما، والحلق محمول على الأفضل والمطلوب، وإلا فالتحلل يحصل بالتقصير، والنساء ليس
عليهن حلق.
البقرة 196
ما جاء في محظورات الحج والعمرة: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ
أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) من قمل أو غيره فاحتاج إلى الحلق (فَفِدْيَةٌ) أي فعليه فدية (مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) روى الشيخان من حديث كعب بن عجرة
قال وقف علي رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم بالحديبية، والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى،
تجد شاة؟ فقلت لا، فقال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
البقرة 196
ما جاء في التمتع بالعمرة إلى الحج: (فَإِذَا أَمِنتُمْ) أي وتمكنتم من أداء المناسك (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) لأنه يباح له
محظورات الإحرام بالتحلل من العمرة، حتى يحرم بالحج يوم التروية، والقارن أيضا
متمتع يحب عليه الهدي، (فَمَن
لَّمْ يَجِدْ) أي الهدي (فَصِيَامُ) أي فعليه صيام (ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أي في زمان أداء مناسكه، ويدخل فيه وقت التحلل من العمرة، وفي صحيح
البخاري من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى
الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى؛ وفي رواية قالا: لم
يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) أي إلى أمصاركم وأهليكم (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) (ذَلِكَ) أي التمتع على الراجح، أو وجوب الهدي بالتمتع (لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ) لغير ساكني الحرم
المكي، ورد الوجه الثاني بأنه لو كان ذلك إشارة إلى وجوب الهدي لقال: ذلك على من...إلخ
(وَاتَّقُواْ اللّهَ) أي عقابه بطاعته (وَاعْلَمُواْ
أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
البقرة 197
ما جاء في الحج والعمرة: (الْحَجُّ) أي وقت جواز الإحرام به (أَشْهُرٌ
مَّعْلُومَاتٌ) وهي شَوّالٌ وذو
القِعدة، وعشر من ذي الْحَِجة، أو ذو الحجة كلها كما قال مالك، ويؤيده أن رمي
الجمرات يكون في أيام التشريق، وهي من أيام الحج، ولأن الحائض يجوز لها تأخير طواف
الإفاضة إلى أن تطهر، كما قال النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم لصفية لما حاضت: لعلها تحبسنا، ويرجح الوجه الأول أنه لا يجوز الأحرام
بالحج بعد طلوع الفجر يوم العاشر، يفوت الإحرام بالحج بطلوع الفجر ليلة النحر، وفي
حديث عروة بن مضرِّس قال: أتيت النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم بجمع، أي بالمزدلفة، فقال صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: من صلى هذه الصلاة معنا، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نَهارا فقد تم حجُّه
وقضى تفثَه، (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي ألزم نفسه الإحرام بالحج في
تلك الأشهر (فَلاَ رَفَثَ) أي الكلام الفاحش، أو الجماع (وَلاَ فُسُوقَ) أي المعاصي (وَلاَ
جِدَالَ) أي الخصام (فِي الْحَجِّ) أي في زمن الإحرام به (وَمَا
تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ) أي فاتركوا المعاصي واشتغلوا بالطاعات فإن الله يثيبكم (وَتَزَوَّدُواْ) أي من التقوى والعمل الصالح (فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، والزاد في الأصل ما يتخذه المسافر من الطعام والشراب، وفي صحيح البخاري
من حديث ابن عباس قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ،
وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا
النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآية، وعلى هذا يصير المعنى: فإن خير الزاد التقوى،
ومن التقوى أن تتقوا بما تتزودون سؤالَ الناس (وَاتَّقُونِ
يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) ففيها الحث على فعل الأسباب التي تجلب المنافع وتدفع المضار، وأنَّها لا
تنافي التوكل، وإنما الذي ينافيه هو العجز والكسل عن الأسباب.
البقرة 198
ما جاء في التجارة في الحج والعمرة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) أي إثم (أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) أي في طلبكم الرزق في مواسم الحج،
ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: كانت عُكاظ ومَجِنّةُ وذو الْمَجاز أسواقا
في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنَزلت.
البقرة 198
ما جاء في النُّزول بالمزدلفة: (فَإِذَا أَفَضْتُم) من إفاضة الماء أي إسالته، كأن
الأصل: إذا دفعتم أنفسكم (مِّنْ
عَرَفَاتٍ) وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع، أي بالإسراع، رواه البخاري (فَاذْكُرُواْ اللّهَ) بالتلبية والتكبير والدعاء، ويجوز أن يراد صلاة المغرب والعشاء (عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) قيل هو المزدلفة، أو جبل يقف
عليه الإمام بالمزدلفة، والراجح الأول لقول النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: "وَقَفْتُ هَاهُنَا وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ" (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أي لأجل هدايته لكم، أو كما
علمكم، فينبغي للعبد أن يذكر ربه بمقدار علمه (وَإِن كُنتُم
مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) أي وإنكم كنتم ضالين من قبل ذلك، وإن مخففة من الثقيلة، واللام في
"لمن" فارقة.
البقرة 199
ما جاء في الحج والعمرة: روى الشيخان من حديث عَائِشَةَ قالت: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ
دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ
سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ أَمَرَ
اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ
يَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أي من عرفة لا من المزدلفة،
و"ثم" هنا عطف لخبر على خبر، كأنه قال: ثم لا تخالفوا الناس أنتم معشر
الحمس، فتكون إفاضتكم من مزدلفة، بل لِتكنْ وقفتكم بعرفات فتُفيضوا من حيث أفاض
الناس (وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ) أي على ما كنتم ترتكبونه من المخالفات
في الجاهلية (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خالف قريشا في الجاهلية، فكان يقف بعرفات، ففي صحيح البخاري من حديث جُبَيْرِ
بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ
عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ مِنْ الْحُمْسِ، فَمَا
شَأْنُهُ هَا هُنَا؟.
البقرة 200
ما جاء في الحج والعمرة: (فَإِذَا قَضَيْتُم) أي أديتم (مَّنَاسِكَكُمْ) وفرعتم منها (فَاذْكُرُواْ
اللّهَ) ذكرا (كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) يعني أو كذكرٍ أشدَّ من ذكرهم؛ روي
أنّهم كانوا في الجاهلية إذا فرغوا من المناسك، يجلسون فيذكرون أيام آبائهم ويعدون
مفاخرَهم (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا) (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)
أي نصيب، يعني لا يجعلون من دعائهم نصيبا لسؤال الآخرة ونعيمها (وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً) (وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي احفظنا منها (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ) أي نصيب من الأجر مما كسبوه من
الأعمال الصالحة (وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يحاسب عباده فلا يشغله شأن عن
شأن.
البقرة 203
ما جاء في أيام التشريق: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ) أي بالتكبير عند رمي الجمرات
وأدبار الصلوات (فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) وهي الأيام الثلاثة من أيام
التشريق (فَمَن تَعَجَّلَ) أي في النفر من منى (فِي يَوْمَيْنِ) فنفر في اليوم الثاني (فَلاَ
إِثْمَ عَلَيْهِ) أي بتعجله (وَمَن تَأَخَّرَ) أي في النفر، حتى رمى في اليوم الثالث (فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ) بالتأخر، ردا على
أهل الجاهلية، فمنهم من يؤثم المعجل ومنهم من يؤثم المؤخر، وإلا فالثاني أفضل بلا
شك، وهو أكثر عملا، فكيف يكون عليه الإثم (لِمَنِ
اتَّقَى) أي هذه الأحكام
تذكرة للمتقين أي المؤمنين، لأنّهم هم الذين ينتفعون بِها (وَاتَّقُواْ اللّهَ) أي في كل ما تأتون وتذرون (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه للحساب والجزاء.
البقرة 142 تحويل
القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) أي الخفاف العقول، والمقصود بِهم
هنا اليهود (مَا وَلاَّهُمْ) أيُّ شيء صرفهم (عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) أي عن استقبالها، يعني بيت
المقدس، وفي صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، وقال السفهاء من
الناس، وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فوقع ما أخبر الله تعالى
أنه يقع، ففيه علم من أعلام النبوة (قُل لِّلّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي جميع الجهات مملوكة له تعالى لا اختصاص لشيء منها به جل وعلا، وإنما
العبرة بامتثال أمره (يَهْدِي
مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يعني بامتثال أوامره من غير اعتراض.
البقرة 143 فضل
أمة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَكَذَلِكَ) أي الأمر كذلك، قصد بِها تثبيت
ما بعدها من الكلام، أو كما هديناكم (جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا) أي عدولا خيارا،
استعير الوسط للخصال الحميدة لأنّها وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، كالجود بين
الإسراف والبخل، والشجاعة بين الجبن والتهور (لِّتَكُونُواْ
شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وفي صحيح البخاري من حديث أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: يدعى نوح يوم القيامة، فيقول لبيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلغت؟ فيقول
نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول:
محمد وأمته. فتشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدا، فذلك قوله جل ذكره:
"وكذلك" إلخ.
البقرة 143 ابتلاء
الناس بتحويل القبلة: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنتَ عَلَيْهَا) أي بيت المقدس، في
صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم كان أول ما قدم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا،
وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، فخرج
رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول
الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت،
وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه
قبل البيت أنكروا ذلك؛ (إِلاَّ
لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي من يتبعك في ذلك ومن يرتد عن
الإسلام فلا يتبعك، وإظهاره بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع. (وَإِن
كَانَتْ لَكَبِيرَةً) أي وإنَّها لكبيرة
أي شاقة وثقيلة، إن حرف نصب وتوكيد مخففة من إنَّ، واللام في "لكبيرة"
هي الفارقة بين "إن" النافية و"إن" المخففة (إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ) وفي صحيح البخاري من حديث البراء
بن عازب أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل
الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ) أي بصلاتكم قبل ذلك
إلى بيت المقدس، لأنكم أتيتم بما أمرتم به، وإيمانكم هو الذي جعلكم تأتون بما
أمرتم، فمن مات قبل التحويل فقد مات على إيمانه، ولا ينقص ذلك من إيمانه شيئا (إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) الرأفة رفع المكروه وإزالة
الضرر، والرحمة الإحسان وجلب النفع.
البقرة 144 أمر
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم باستقبال الكعبة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاء) قد للتحقيق، وذكر
بعض النحاة أن قد تقلب المضارع ماضيا، أي قد رأينا، أو كثيرا ما نرى تردد وجهك
وتصرُّف نظرك إلى جهة السماء، وكان النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنّها قبلة أبيه إبراهيم، ولأنَّها
أقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد
ويتبع قبلتنا (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) أي تحبها (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ) أي نحوَ أو قِبَلَ (الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ) أي الكعبة (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ) أي اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي التحويل (الْحَقُّ
مِن رَّبِّهِمْ) لأنّهم يعلمون أنه
هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، ولا يأمر إلا بالحق (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعيد وتَهديد.
البقرة 145 عناد
أهل الكتاب وتعصبهم: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ
بِكُلِّ آيَةٍ) دالة على صدقك (مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ) لأنَّهم إنما يخالفونك لمحض
العناد والكبرياء، جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط لاجتماعهما وتقدم القسم (وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي لا يتبع اليهود قبلة النصارى،
ولا النصارى قبلة اليهود (وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً
لَّمِنَ الظَّالِمِينَ).
البقرة 146 معرفة
أهل الكتاب بصفة النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: (الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) أي علماء اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) أي محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بنعوته وأوصافه التي قرؤوها في التوراة والإنجيل (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ) بحيث لا يلتبس عليهم، كما لا
يلتبس عليهم أبناؤهم بغيرهم، وذُكر عن عبد الله بن سلام، وكان من كبار علماء
اليهود، فشهد شهادة الحق، وأسلم وحسن إسلامه، قال: أنا أعلم به مني بابني، يعني
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال له عمر: لِمَه؟ قال: لأني
لست أشك بمحمد أنه نبي، أما ولدي فلعل والدته خانت، يعني لا أشك بنبوته، أما ولدي
فأشك ببنوته، وليس المعنى أنه يشك بشخصه، فإنه يعرف ابنَه لا محالة (وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ) ليخفون (الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) لأنّهم قرؤوه في التوراة
والإنجيل (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكين أو
المترددين في كتمانِهم للحق.
البقرة 148 وجوب
استقبال الكعبة للصلاة: (وَلِكُلٍّ) أي لكل أهل ملة (وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيهَا) أي مستقبلها (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) يعني فلا سبيل إلى اجتماعكم مع
اليهود والنصارى على قبلة واحدة، فدعوا التنازع، وبادروا إلى ما يحصل به السعادة
في الدارين من الخيرات والأعمال الصالحة (أَيْنَ
مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا) أي يحشركم إليه يوم القيامة للحساب والجزاء (إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (وَمِنْ حَيْثُ) أي من أي موضع (خَرَجْتَ
فَوَلِّ وَجْهَكَ) أي من ذلك الموضع في
صلاتك (شَطْرَ) أي جهة (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي الكعبة (وَإِنَّهُ) أي صرفُك من استقبال بيت المقدس إلى الكعبة (لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) أي الذي يرعاك ويدبر أمرك، فتوكل عليه (وَمَا
اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيها وعد للمؤمنين ووعيد وتَهديد للكافرين.
البقرة 150 استقبال
الكعبة من إتمام النعمة: (وَمِنْ حَيْثُ) أي من أي موضع (خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ) أي الكعبة (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي جهته من ذلك الموضع في صلاتكم
(لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) لأن اليهود كانوا يقولون:
يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا، وأيضا قالوا: النبي المنعوت في التوراة قبلته الكعبة؛
والمشركون كانوا يقولون: يدعي محمد أنه على ملة إبراهيم، ويخالف قبلته (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ) يعني: تكون لهم الحجة عليكم
عنادا وكبرياءً: فيقول اليهود: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده،
ويقول المشركون: لقد رجع محمد إلى قبلة آبائه، يوشك أن يرجع إلى دينهم (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) أي خافوني ولا تخافوهم (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي بإكمال شرائع الدين (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي ولتهتدوا إلى سعادة الدارين.
البقرة 151 الحث
على الذكر شكرا للنعمة: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً
مِّنكُمْ) أي من أنفسكم وبلسانكم
(يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا) أي الدالة علينا (وَيُزَكِّيكُمْ) يطهركم من أنجاس الشرك وأرجاس الشُّبُهات وقاذورات الشهوات (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي دقائق الكتاب وأسراره، وفسرت بالسنة لأنّها المبينة للكتاب (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) أي مما لا سبيل لكم إلى معرفته
إلا من جهة الوحي، أي كما أرسلت فيكم الرسول (فَاذْكُرُونِي) أي بالطاعة، ذكرا باللسان
وبالقلب وبالجوارح (أَذْكُرْكُمْ) أي بالثواب، وفي الصحيح: " من
ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم " (وَاشْكُرُواْ لِي) أي ما أنعمت به عليكم (وَلاَ
تَكْفُرُونِ) أي لا تكفروني بجحد
نعمتي وعصيان أمري.
البقرة 153 فضل
الصلاة والصبر، والشهادة في سبيل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اسْتَعِينُواْ) أي على تبليغ الحق،
وعلى الذكر والشكر وسائر الطاعات (بِالصَّبْرِ) وهو حبس النفس على الطاعات،
وحبسها عن المعاصي، وحبسها عن الجزع عند البلاء والمصيبة، والجزع هو الظن السيئ،
وهو ضد الرضا (وَالصَّلاَةِ) لأنّها تصل القلبَ بفاطره
ومولاه، فيحصل له كمال التوكل عليه (إِنَّ
اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي بعونه ونصرته.
البقرة 154 فضل
الشهادة في سبيل الله: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ
اللّهِ) أي في طاعته وإعلاء
كلمته (أَمْوَاتٌ) أي هم أموات (بَلْ) هم (أَحْيَاء) وفي صحيح مسلم: " أرواحهم في جوف طير خُضر، لها قناديل معلقة بالعرش،
تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل " (وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) أي لا تحسون ولا تدركون ذلك لأنه
من أمور الغيب.
البقرة 155 تبشير
الصابرين على البلاء: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) اللام موطئة للقسم (بِشَيْءٍ) أي بقليل (مِّنَ الْخَوفْ) أي من العدو (وَالْجُوعِ) أي أسبابه من القحط أو غيره (وَنَقْصٍ
مِّنَ الأَمَوَالِ) بِهلاك المواشي (وَالأنفُسِ) بذهاب الأحبة بالقتل أو الموت (وَالثَّمَرَاتِ) أي بإتلافها أو بعدم الإثمار (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الجملة معطوفة على ما قبلها، من باب عطف المضمون على المضمون، بصرف النظر
عن الخبرية والإنشائية (الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ) أي نحن له، وله ما أخذ منا، وله
ما أعطى، وكل ما بأيدينا عوارٍ مستودعة، سيرثه الله منا (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) أي يوم القيامة، فيحاسبنا على
تصرفنا في نعمه (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ) أي ثناءٌ بعده ثناء (مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) إحسان (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أي للحق ولكل خير.
البقرة 158 ما
جاء في مناسك الحج والعمرة: (إِنَّ الصَّفَا) الصفا في الأصل: الحجر الأملس،
واحده صفاة، كحصى وحصاة، (وَالْمَرْوَةَ) في الأصل الحجر الأبيض اللين، ثم
صارا علمين لجبلين بمكة، وقد صارا اليوم داخل المسجد الحرام (مِن شَعَآئِرِ اللّهِ) جمع شعيرة، وهي العلامة، أي من أعلام دينه ومناسكه التي تعبدنا بِها (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) الحج القصد إلى معظم، أي قصد البيت لأداء المناسك (أَوِ اعْتَمَرَ) العُمرة هي الزيارة (فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِ) أي لا إثم عليه في (أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، وأصل الجناح: الميل، ومنه " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا) من الطاعة، أي انقاد خيرا، أي آتيا خيرا أو آتيا بخير (فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ) أي يثيبه على عمله (عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء من أعمال
الناس.
وكان سبب تحرج الصحابة من الطواف بين الصفا والمروة، ما ثبت في صحيح مسلم
من حديث عائشة قالت: ما أتم
الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر،
يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاء
الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، قالت: فأنزل الله
عز وجل (إن الصفا والمروة من شعائر الله) إلى آخرها.
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: إنما كان من أهل بِمَنَاةَ
الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ، لا يطوفون بين الصفا والمروة، "أي في
الجاهلية" فأنزل الله تعالى (إن الصفا
والمروة من شعائر الله) فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. وعلى هذا فقد كانوا في
الجاهلية فريقين: فريق لا يطوفون بين الصفا والمروة، على هذه الرواية، وفريق آخر
يطوفون، على ما تقدم في رواية مسلم، والله أعلم.
وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ يُقَالُ
لَهُ: إِسَافٌ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ يُقَالَ لَهُ: نَائِلَةُ، وَكَانَ
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا طَافُوا بَيْنَهُمَا مَسَحُوهُمَا، فَلَمَّا
أَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ، كَرِهُوا الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لِمَكَانِ الصَّنَمَيْنِ،
لِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ). وهذا مخالف لما قدمناه في
الصحيحين وفي صحيح مسلم من حديث عائشة، ولا يمتنع أن تكون كلها أسبابا واردة، جعلت
الصحابة يتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة. والله أعلم.
البقرة 159 وعيد
العلماء على كتمان الحق: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) يخفون (مَا أَنزَلْنَا) أي على أنبيائنا (مِنَ
الْبَيِّنَاتِ) أي الآيات البينات،
وهي الواضحة الدالة على الحق، ومن ذلك ذكر صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التوراة والإنجيل (وَالْهُدَى) أي أسبابه، وهو من العام بعد
الخاص (مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتَابِ) أي في التوراة
والإنجيل (أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ) يبعدهم من رحمته، ويذيقهم من
نقمته (وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) أي من يتأتى منهم اللعن من
الملائكة والإنس والجن، والمراد: يدعون عليهم بالإبعاد (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ) أي ما أفسدوا بالتدارك (وَبَيَّنُواْ) أي ما كتموه (فَأُوْلَئِكَ
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أقبل توبتهم (وَأَنَا التَّوَّابُ) الذي يقبل التوبة عن عباده (الرَّحِيمُ) يقابل الذنوب بالإحسان. وهذا
الوعيد يقع على كل عالم كتم الحق مقابل ثمن قليل وأجر زهيد يأخذه، وأما من كتمه خوفا
على نفسه فلا.
البقرة 161
وعيد الكافرين: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين كتموا الحق وكفروا
النعمة، وعبر عن الكتمان بالكفر، نعيا عليهم به (وَمَاتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ) وهذه الآية اشتملت
على الجمع والتفريق، جمعت الكاتمين في حكم واحد: وهو أنّهم ملعونون مبعدون، ثم
فرقت: بأن من تاب قد تاب الله عليه وأزال عنه عقوبة اللعنة، وأما الذين ماتوا على
الكتمان ولم يتوبوا فَـ(أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي قد ثبتت عليهم اللعنة (خَالِدِينَ فِيهَا) أي في اللعنة، أو في النار لحضورها في الذهن وإن لم تُذكر، لأن لعنهم
وإبعادهم عن الرحمة يستلزم دخول النار (لاَ
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ) لا يُمهَلون عن العذاب ولا
يؤخرون عنه ساعة.
البقرة 163 دلائل
الوحدانية والربوبية والقدرة: (وَإِلَهُكُمْ) أي الذي يستحق العبادة (إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) ولا نظير ولا شبيه له في ذاته
ولا في صفاته ولا في أفعاله (الرَّحْمَنُ
الرَّحِيمُ) ومن رحمته أمدَّ
مخلوقاته بالنعم (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) (وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي تعاقبهما وكون كل منهما خلَفا
للآخر، أو اختلاف كل واحد منهما في نفسه زيادة ونقصانا وظلمة ونورا (وَالْفُلْكِ) أي السفن العظام (الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) (وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن
مَّاء) أي من جهة السماء (فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) أي بالإنبات بعد يُبسها (وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ) أي من كل نوع من الدواب (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي تقليبها جنوبا وشَمالا وقَبولا ودَبورا، حارة وباردة، وعاصفة ولينة (وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) بحيث لا ينْزل ولا يصعد، لأن
العادة تقتضي صعوده إن كان لطيفا، وهبوطه إن كان كثيفا (لآيَاتٍ) أي علامات دالة على وحدانيته وكمال قدرته وربوبيته للأكوان (لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يتفكرون، فالعقل مجاز عن الفكر الذي هو ثمرته.
البقرة 165 وعيد
من يتخد الأنداد من دون الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللّهِ أَندَاداً) أي أمثالا، والمراد
بِها الأصنام التي يعبدها المشركون، أو الرؤساء والطواغيت الذين يطيعونَهم طاعةَ
الأرباب (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ) أي كحب المؤمنين لربِّهم، يعني
يعظمونَهم ويطيعونَهم (وَالَّذِينَ
آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ) لأن محبة المؤمن لربه وطاعته له دائمة، بخلاف المشركين فإنّهم يتبرؤون من
أصنامهم عند الشدائد، حيث يرون أن لا منفعة ترجى منها، وربما عوضوها، ويحكى عن
أقوام من المشركين أنّهم أصابَهم القحط، وكانت عندهم أصنام مصنوعة من تمر،
فأكلوها، فلم ينتفع قوم بأصنامهم ما انتفع هؤلاء بِها، فأذاقهم الله بالقحط حلاوة
الكفر، ويا لها من حلاوة.
(وَلَوْ يَرَى) أي يعلم (الَّذِينَ ظَلَمُواْ) أي أشركوا، لأنّهم وضعوا العبادة في غير موضعها وصرفوها لمن لا يستحقها (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) أي الذي ينتظرهم يوم القيامة (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) ساد مسدَّ مفعولي
"يرى" (وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) معطوف على الجملة المتقدمة،
والجواب محذوف تقديره: لتركوا ما هم عليه من الباطل واستمسكوا بالحق، أو لوقعوا
فيما لا يكاد يوصف من الحسرة والندامة، وقرأ نافع: "ولو ترى"، والخطاب هنا على الراجح: لكل مستمع: والجواب حينئذ: لرأيت أمرا لا
يوصف من الهول والفظاعة.
البقرة 166 تبرؤ
المتبوعين من التابعين يوم القيامة: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ
الَّذِينَ اتَّبَعُواْ) بدل من "إذ يرون العذاب" (وَرَأَوُاْ
الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) أي تقطعت الأسباب التي كانوا يرجون منها النجاة، وهي الوُصَلُ التي كانت
بينهم في الدنيا، من النسب والمحبة والاتفاق على الدين؛ والباء للملابسة، والتقدير
تقطعت الأسباب موصولةً بِهم (وَقَالَ
الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً) أي لو كانت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا) المضارع منصوب بأنْ مضمرةً وجوبا بعد الفاء (كَذَلِكَ) أي كما ندموا بتبرؤ المتبوعين (يُرِيهِمُ
اللّهُ أَعْمَالَهُمْ) أي السيئة (حَسَرَاتٍ
عَلَيْهِمْ) مفعول ثالث ليُرِي (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) فعند ذلك تشتد ندامتهم وحسرتُهم،
حيث لا تنفعهم حسرة ولا ندامة.
البقرة 168 الحث
على أكل الحلال واجتناب الحرام: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ
مِمَّا فِي الأَرْضِ) أي حالَ كونه (حَلاَلاً) أحله الشرع (طَيِّباً) أي يستلذه ويشتهيه الطبع السليم،
ولم يحرمه الشرع، وعلى هذا فكل طيب حلال، ما لم يرد دليل الحرمة (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي فتحرموا الحلال، أو تحللوا
الحرام (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) أي ظاهر العداوة، لكنه يُظهر
الولاية لمن يريد إغواءه (إِنَّمَا
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) أي المعاصي لأنّها تسوء صاحبها في الحال والمآل (وَالْفَحْشَاء) أقبح المعاصي وأعظمها مساءة (وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) فتفتروا على الله الكذب بغير علم.
البقرة 170 اقتداء
الكفار بآبائهم في الشرك: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ) العدول من الخطاب إلى الغَيْبة
للتنبيه على أنّهم لفرط جهلهم ليسوا أهلا للخطاب (اتَّبِعُوا
مَا أَنزَلَ اللّهُ) من الحق وتوحيد الله
بالعبادة (قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا) أي وجدنا (عَلَيْهِ آبَاءنَا) أي من عبادة الأصنام (أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً) يعني أيتبعونَهم ولو كانوا جهلة (وَلاَ
يَهْتَدُونَ) أي إلى الحق، ويجوز
أن تكون الواو عاطفة، كأنه قال: أيتبعونَهم على ما هم عليه من الباطل لو كانوا
عاقلين مهتدين ولو لم يكونوا كذلك. وهؤلاء غير معذورين في تقليدهم لآبائهم، لأن
الشرك تأباه الفطر السليمة والعقول الصحيحة، فكيف وقد بُلِّغوا بالشريعة النبوية،
وأما في فروع الشريعة فقد قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
البقرة 171 تشبيه
الكفار بالبهائم: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) أي صفتهم في إعراضهم عن سماع
الحق واتباعه، أو مثل من يدعوهم وهم معرضون عنه (كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً) أي كمثل الراعي الذي يصيح
بالبهائم التي لا تسمع إلا دَوِيَّ الصوت، ولا تفهم ما يقال لها، وعلى الأول:
مثلهم كمثل البهائم (صُمٌّ) هذا تشبيه بليغ لذكر طرفي
التشبيه، أي هم صم لأنّهم لا يسمعون الحق (بُكْمٌ) لأنّهم لا ينطقون بالحق (عُمْيٌ) لأنّهم لا ينظرون إلى ما يدلهم على الحق، كما قال تعالى: (وكأين من آية
في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)، فهم إذ لم ينتفعوا بِهذه الحواس
كأنّهم فاقدوها (فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) الفاء سببية، أي لا يدركون شيئا.
البقرة 172 بيان
المحرمات من الذبائح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ
مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي المستلذات مما أحله الله، يعني ولا تحرموا الطيب أو تحلوا الخبيث كحال
الكافرين (وَاشْكُرُواْ لِلّهِ) أي على ما أنعم به عليكم (إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ولا يكون شاكرا إلا إذا عرف قدر
النعمة، وعرف من أنعم بِها عليه، وأطاعه فيما أمر ونَهى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي أكلها، وهي التي ماتت من غير
ذَكاةٍ شرعية، باستثناء ميتة السمك والجراد (وَالدَّمَ) أي المسفوح (وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ) أي مع بقية أجزائه (وَمَا
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ) أي ما رُفع الصوت متلبسا بذبحه لغير الله، أي ذكر عليه غير اسم الله، (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي إلى الأكل مما ذكر (غَيْرَ
بَاغٍ) أي ظالم (وَلاَ عَادٍ) أي متجاوز ما يسد به رمقه، وعن مالك: يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد
غنى طرحها (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فلا يؤاخذكم بما اضطُررتم إليه.
البقرة 174 وعيد
أهل الكتاب على كتمان الحق: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ
اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ) أي التوراة (وَيَشْتَرُونَ
بِهِ) ويأخذون بدله (ثَمَنًا قَلِيلاً) وهو ما يتقاضاه من الأجر على منصبه (أُولَئِكَ
مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ) لأن ما يأكله من الحرام يكون سببا في النار (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي كلام رحمة ورضا (وَلاَ يُزَكِّيهِمْ) لا يطهرهم من دنس الذنوب (وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ) أي استبدلوا (الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى) أي في الدنيا (وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ) أي يوم القيامة (فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي ما أعظم صبرَهم عليها، وهو
تعجيب من ارتكابِهم موجِِباتِها، وإلا فلا صبرَ لهم عليها (ذَلِكَ) أي العذاب (بِأَنَّ) أي بسبب أن (اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ) أي التوراة، متلبسا (بِالْحَقِّ) (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي
الْكِتَابِ) فآمنوا ببعضه وكفروا
ببعض (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) أي خلاف بعيد عن الحق.
البقرة 177 شعب
الإيمان: (لَّيْسَ الْبِرَّ) كذا قرأ حفص عن عاصم وحمزة، والباقون: "البرُّ" بالرفع؛ والبر
كلمة جامعة لأنواع الخير والطاعات والقربات (أَن
تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي ليس البر مختصا بشأن القبلة،
حيث أكثرتم الخوض فيها، وادعى كل طائفة حصر البر على قبلته، وكانت اليهود تصلي إلى
بيت المقدس جهة المغرب، وكانت النصارى تصلي قبل المشرق (وَلَكِنَّ
الْبِرَّ) بِرُّ (مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ) أي جنس الكتاب، فيشمل جميع الكتب الإلهية (وَالنَّبِيِّينَ) من غير تفريق بين أحد منهم. وقرأ نافع: "ولَكِنِ البرُّ". (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أي كائنا على حب المال، يعنى
أعطى المال وهو يحبه، وفي الصحيح: " أفضل الصدقة أن تَصَدَّق وأنت صحيح حريص
" (ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ) سُمِّي مسكينا لأن
الحاجة أسكنته (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي المسافر لملازمته الطريق في
السفر (وَالسَّآئِلِينَ) وفي سنن أبي داود ومسند أحمد من
حديث حسين بن علي قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: " للسائل حق وإن جاء على فرس " (وَفِي الرِّقَابِ) أي في تخليص الرقاب وفكاكها، بمعاونة المكاتبين أو فك الأسارى (وَأَقَامَ الصَّلاةَ) أداها بشروطها وآدابِها (وَآتَى
الزَّكَاةَ) أي الصدقة التي يزكو
بِها مالُه، أي أعطاها مستحقيها. (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ
إِذَا عَاهَدُواْ) العهد هنا يشمل حقوق الحق سبحانه وحقوق الخلق (وَالصَّابِرِينَ) منصوب على المدح والاختصاص: أي أخصهم بالذكر أو أمدحهم (فِي الْبَأْسَاء) البؤس والفقر (والضَّرَّاء) أي السقم والوجع (وَحِينَ الْبَأْسِ) في وقت القتال وجهاد العدو (أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانِهم (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي الذين اتقوا عذاب الله بإتيان
أوامره واجتناب مناهيه.
البقرة 178 الديات
والقصاص: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ) أي فُرض وأُلزم، أي إذا طالب به
صاحب الحق، وأصل الكتابة الخط، ثم كني به عن الإلزام (الْقِصَاصُ) قاصَّه قِصاصا ومُقاصَّةً: أي جازاه وفعل به مثل ما فعل (فِي الْقَتْلَى) أي بسببهم (الْحُرُّ) يُقتصُّ أو يقتل (بِالْحُرِّ) (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) (وَالأُنثَى بِالأُنثَى) روي أنّهم في الجاهلية، كان يكون بين حيين منهم دماء، فإذا كان لحي منهم
طَوْلٌ على الآخر، يُقسمون لنقتلن منهم الحر بالعبد والذكر بالأنثى، فنَزلت الآية،
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم قتل رجلا يهوديا بامرأة قتلها، وعلى هذا فما ورد في الآية وارد على سبب
خاص، ولأن القصاص العادل يقتضي أن يقتل القاتل بجريرته لا غيره، وللحديث الصحيح:
" المؤمنون تتكافأ دماؤهم "، وهذا واضح.
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) المراد بالأخ ولي الدم،
والمطالِب بالقصاص، سماه أخا استعطافا بتذكير أخوة البشرية عامة، وأخوة الإيمان
خاصة، أي فمن تجاوز له أخوه عن شيء، بأن أسقط القصاص ورضي بالدية (فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ) بأن لا يشدد على
القاتل في طلب الدية، وينظره إن كان معسرا، ولا يطالبه بالزيادة عليها (وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) بأن يدفعها كاملة عند الإمكان
ولا يبخس منها شيئا، ولا يُمطِل صاحب الحق بِها (ذَلِكَ) أي تشريع الدية وإسقاط القصاص (تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي وإحسان إلى هذه الأمة، وكان
في اليهود القصاص ولم تكن دية، وكان في النصارى الدية ولم يكن قصاص، فخفف الله على
هذه الأمة وخيرها بين الدية والقصاص.
(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) بأن قتل القاتل بعد أن عفا ورضي
بالدية (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة، أو في الدنيا، فقد
ورد أنه يقتل ولا تقبل منه الدية، (وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) التنوين فيه للنوعية والتعظيم، لأن القاتل إذا علم بأنه إذا قتل يقتل،
فإن ذلك أردع له عن الوقوع في القتل، بخلاف أن لو كان الدية وحدها هي المشروعة،
وكانوا يقولون: "القتل أنفى للقتل"، ولكن ليس كل قتل أنفى للقتل، وعبارة
القرآن أبلغ بكثير، والله الأعلى والأجل (يَاْ
أُولِيْ الأَلْبَابِ) أي ذوي العقول
السليمة الخالصة عن شائبة الهوى (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أي تتقون ربكم
باجتناب ما يفضي بكم إلى القتل أو العذاب.
البقرة 180 الوصية للوالدين من المنسوخ: (كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسباب الموت وأماراته من العلل والأمراض المخُوفة (إِن تَرَكَ خَيْرًا) أي مالا كثيرا (الْوَصِيَّةُ) اسم من أوصى يوصي، أوصاه بكذا:
عهد إليه فيه، وأوصى له بكذا: جعله له يأخذه بعد موته (لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) وهذا الحكم كان في أول الأمر، ثم
نسخ بآية المواريث، وبقي استحباب الوصية للأقارب الذين لا يرثون (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالعدل، بحيث لا يكون بٍها إضرار بالورثة، فلا ينبغي للوصية أن تتجاوز
الثلث (حَقًّا) أي حُقَّ ذلك حقا، فهو مصدر مفعول مطلق، حذف عامله وجوبا (عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي المؤمنين، والتعبير بالمتقين للدلالة على أن المحافظة عليها من شأن
المتقين الخائفين من الله عز وجل.
البقرة 181 وعيد
من بدل الوصية لا بقصد الإصلاح: (فَمَن بَدَّلَهُ) أي الإيصاء "الوصية"
من شاهد أو وصي، إما بإنكار الوصية كلها، أو تبديل شيء منها (بَعْدَمَا سَمِعَهُ) أي علمه، لأن السماع طريق العلم (فَإِنَّمَا
إِثْمُهُ) أي التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي الإيصاء "الوصية" (إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيجازي كلا بعمله (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ) أصله موصِي، اسم منقوص، تحذف ياؤه في حالتي الرفع الجر، إذا لم تدخل عليه
"أل" (جَنَفًا) أي ميلا أو جورا في الوصية من غير قصد، بقرينة: (أَوْ إِثْمًا) لأن الإثم يكون على من قصد دون من أخطأ (فَأَصْلَحَ
بَيْنَهُمْ) أي بين الموصَى لهم بإجرائهم
على نَهج الشرع، أو بإلغاء الزيادة في الوصية (فَلاَ
إِثْمَ عَلَيْهِ) أي بتبديله، لأنه
بدل باطلا بحق، أو فقد ارتفع الإثم على الموصي بتعديل وصيته، إذا كان قد فعل ما
فعل عمدا، وهذا أنسب بقوله: (إِنَّ
اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
البقرة 183 أحكام
الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ) هو في اللغة
الإمساك، ومنه قيل للصمت: صوم، لأنه إمساك عن الكلام، وفي الشرع: فسر في الحديث
الصحيح: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي"
والمراد بالشهوة الجماع وما يكون به الاستمناء، من أجلي أي بالنية (كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) أي على كل الأمم، أو على أهل الكتاب خاصة، والمراد المماثلة إما في أصل
الوجوب، وإما في الوقت والمقدار (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أي لتتقوا المعاصي،
فإن الصيام يعقم الشهوة التي هي سبب المعاصي، أو يكسرها، وفي الحديث الصحيح:
"الصيام جنة" لأنه يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) أي معيَّناتٍ بالعد أو قليلات، لأن القليل يسهل عده، وهي أيام شهر رمضان.
(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا) مرضا يجد معه مشقة الصيام (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) أي مسافرا (فَعِدَّةٌ
مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر في أيام أخر إن أفطر (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي الذين يقدرون عليه إن أفطروا (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) وكان ذلك في أول الأمر، ففي
الصحيحين من حديث سلَمة بنِ الأكوع قال: لما نزلت كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى
نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وفي صحيح البخاري من حديث نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَرَأَ (فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) قَالَ هِيَ
مَنْسُوخَةٌ. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أنه قرأ "وَعَلَى الَّذِينَ
يُطَوَّقُونَهُ فَلا يُطِيقُونَهُ" قال ابن عباس ليست بمنسوخة، هو الشيخ
الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا) بأن زاد على القدر الواجب في الفدية، وهو مد من تمر أو حنطة، أو بأن يطعم
أكثر من مسكين عن كل يوم (فَهُوَ
خَيْرٌ لَّهُ) (وَأَن تَصُومُواْ) أي الأصحاء المقيمون (خَيْرٌ
لَّكُمْ) من إعطاء الفدية (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ما في الصيام من الفضائل التي لا ينبغي أن تفوتوها على أنفسكم.
والحاصل مما تقدم: أن إباحة الفطر للقادرين مع إعطاء الفدية كان في أول الأمر ثم
نسخَ، ويبقى الحكم ثابتا للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، يفطران إذا شاءا ويطعمان
عن كل يوم مسكينا، وذهب مالك إلى عدم وجوب الفدية عليهما؛ وأما الحُبلى والمرضع
فهما على الراجح بمنْزلة المريض والمسافر تفطران وتقضيان، وإذا عجزتا عن القضاء
أطعمتا عن كل يوم مسكينا مدا من حنطة أو تمر.
البقرة 185 نزول
القرآن في شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) أي ابتدئ فيه
إنزاله، وكام ذلك في غار حراء حيث نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) الآيات، ففي مسند أحمد من حديث
واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم قال: " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست
مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت
من رمضان"، وعن ابن عباس: نزل إلى السماء الدنيا جملة، ثم نزل منجما إلى
الأرض في ثلاث وعشرين سنة (هُدًى
لِّلنَّاسِ) أي هداية لهم (وَبَيِّنَاتٍ) أي آيات واضحات (مِّنَ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) أي من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل.
البقرة 185 أحكام
الصيام: (فَمَن شَهِدَ) أي حضر (مِنكُمُ الشَّهْرَ) أي في الشهر، ولم يكن مسافرا، (فَلْيَصُمْهُ) أي فليصم فيه، أو من علم هلال الشهر فليصم، وهذه الآية نسخت السابقة،
فصار الصيام هو الواجبَ على الأصحاء (وَمَن
كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) كرر حكم المريض والمسافر لئلا
يتوهم نسخُه (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فلذلك شرع لكم الرخص (وَلِتُكْمِلُواْ
الْعِدَّةَ) علة لمحذوف دل عليه
مساق الكلام، أي وشرع لكم ما شرع، ورخص لكم ما رخص لتكملوا العدة (وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) المراد بالتكبير الحمد والثناء، وعن
ابن عباس أن التكبير عند رؤية الهلال (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي ولتكونوا من
عباده الشاكرين لنعمه بامتثال أوامره.
البقرة 186 استنْزال
رحمة الله بالدعاء: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) أي عن قربي وبعدي منهم، وقد روي
أن المسلمين قالوا: يا رسول الله أقريب ربُّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل
الله الآية (فَإِنِّي قَرِيبٌ) منهم أي بعلمي مطلع على كل
أحوالهم لا تخفى علي خافية، أي فقل لهم إني قريب، ولم يصرح به هنا كما في غيره من
الآيات، للإشارة إلى أنه تعالى تكفل بجوابِهم ولم يكل ذلك إلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، للتنبيه على كمال لطفه بِهم (أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ) إذا دعاني بقلب ضارع غير غافل مع عدم وجود الموانع كأكل الحرام وقسوة
القلب، وقد يستجيب الله دعوة عبده ولكن بصرف ما يسوؤه عنه أو بادخارها له في
الآخرة كما صرحت بذلك الأحاديث (فَلْيَسْتَجِيبُواْ
لِي) أي فيما دعوتُهم إليه من الطاعات
(وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي يهتدون إلى مصالح دينهم
ودنياهم.
البقرة 187
أحكام الصيام: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَآئِكُمْ) رفث وأرفث في كلامه:
أفحش وأفصح عما يُكنى عنه، والمراد الجماع، لأنه في الغالب لا يخلو عن إفصاح (هُنَّ لِبَاسٌ) أي سكَن (لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ) أي سكن (لَّهُنَّ) وشُبِّها باللباس لأن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه من الفجور (عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ
أَنفُسَكُمْ) أي تظلمونَها
بتعريضها للعقاب وحرمانِها من الثواب، وذلك أنّهم كانوا في أول الأمر إذا نام
الرجل ليلا حرُم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فاختان رجل نفسه
فجامع امرأته، فنَزلت الآية (فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ) (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) أي في الليل كله (وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ) أي اطلبوا الولد، وتحروا حفظ
النسل، لا قضاء الشهوة فقط، وفي التعبير بما كتب الله، إشارة إلى أنه إذا قدر
الولد لم يمنعه عزل أو غيره.
(وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ) الأمر للإباحة الليلَ كله (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) يظهر (لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ) أي ضوء النهار، وهو أول ما يبدو
من الفجر الصادق المعترض في الأُفُق (مِنَ
الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) أي ظلمة الليل (مِنَ
الْفَجْرِ) بيان للخيط الأبيض؛
روى الشيخان من حديث عدي بن حاتم قال: لما نزلت الآية عمدت إلى عِقال أسود وإلى عِقال
أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول
الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إنما ذلك
سواد الليل وبياض النهار. ورويا أيضا من حديث سهل بن سعد قال: أنزلت الآية، ولم ينْزل
"من الفجر" فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض
والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد "من الفجر"
فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار (ثُمَّ
أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) فيه دليل على أن الليل يبدأ من غروب الشمس، وتلك الليلة ليلة الغد وليست
ليلة اليوم.
البقرة 187 من
أحكام الاعتكاف: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ) أي النساء (وَأَنتُمْ
عَاكِفُونَ) أي معتكفون (فِي الْمَسَاجِدِ) والمراد بالمباشرة الجماع، وليس المراد النهي عن مطلق المباشرة، ففي
الصحيحين من حديث عائشة قالت: كان النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فأغسله وأنا حائض (تِلْكَ) أي ما ذكر من الأحكام (حُدُودُ
اللّهِ) أي الحاجزة بين الحق
والباطل (فَلاَ تَقْرَبُوهَا) (كَذَلِكَ) أي مثل هذا التبيين (يُبَيِّنُ
اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ) أو كذلك سنتُه سبحانه أن يبينَ للناس، ولا يتركَهم فيضِلوا عن الطريق
السوي (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي مخالفة أوامره ومراضيه أو
إتيان مناهيه ومساخطه.
البقرة 188
من أحكام الأموال: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم) أي لا يأكلْ بعضُكم مال بعض (بِالْبَاطِلِ) أي الحرام، كالغش والسرقة والغصب وكل سبب محرم، والمعنى: لا يأخذ بعضكم
مال بعض بغير حق، وعبر بالأكل لأنه أهم المطالب، وبه يحصل إتلاف المال غالبا (وَتُدْلُواْ) أي تلقوا (بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) أي على جهة الرشوة، والإدلاء في
الأصل إرسال الحبل في البئر، ثم استعير للتوصل إلى الشيء المطلوب (لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا) أي قطعة (مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ) أي ما يوجب الإثم كشهادة الزور
واليمين الفاجرة (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم مبطلون، وأن ما تأخذونه ليس
لكم.
البقرة 189 الخلق:
الهلال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ) جمع هلال، يسمى به القمر في
ليلتين أو ثلاث من أول الشهر، لأنه حين يُرى يُهِلُّ الناس بذكره أو بالتكبير،
ومنه استهل الصبي: إذا بكى وصاح حين يولد، وأهل بالحج إذا رفع صوته بالتلبية؛ روي
أنّهم سألوا رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يستوي ويستدير،
ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟
فأنزل الله الآية (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ) أي أن ذلك جعله الله
معالم للناس، يوقتون بِها أمورهم الدينية الدنيوية، ولو كان مدورا كالشمس لم يتيسر
التوقيت به.
البقرة 189
اتباع الشريعة وترك ما عليه أهل الجاهلية: (وَلَيْسَ الْبِرُّ) ما يتقرب به إلى الله من الأعمال
الصالحة (بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا) أخرج الشيخان من حديث البراء بن
عازب قال: كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، فجاء رجل
من الأنصار فدخل من بابه، فكأنه عُيِّرَ بذلك، فنَزلت الآية (وَلَكِنَّ الْبِرَّ) بِرُّ (مَنِ اتَّقَى) أي المحارم وعمل بالطاعات، أو ولكن ذا البر، أي البار، من اتقى، وقرأ
نافع: "ولكِنِ البرُّ" (وَأْتُواْ
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) (وَاتَّقُواْ اللّهَ) أي عذابه، باتباع ما يأمركم
واجتناب ما ينهاكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لتظفروا بما تحبون وتنجوا مما
تكرهون.
البقرة 190 أمر
المسلمين بقتال من يقاتلهم: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) أي لإعزاز دينه وإعلاء كلمته (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) وهذا في أول الأمر كما قال تعالى
"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" ثم أمروا بقتال الكفار كافة لتبليغ
الرسالة (وَلاَ تَعْتَدُواْ) بقتل النساء والصبيان والشيوخ
ومن ألقى إليكم السلم، أو قتال المعاهَد، أو قتل غير المحارب مفاجأة من غير دعوة،
وكل من نُهيتم عن قتله (إِنَّ اللّهَ
لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي مكة (وَالْفِتْنَةُ) أي شركهم في الحرم، أو المحنة التي يفتتنون بِها بإخراجهم من الوطن
المحبب (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي من قتلهم (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ
كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ).
(فَإِنِ انتَهَوْاْ) عن الكفر أو القتال (فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فيغفر لهم ما قد سلف (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ) خالصا (لِلّهِ) (فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ
عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فلا عقوبة عليهم
لأن العقوبة على الظالمين، والمنتهون ليسوا منهم، وسمى المعاقبة عدوانا مشاكلة في
اللفظ (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرَامِ) كما هتكوا حرمته
بقتالكم فيه، وذلك زمن الحديبية، فلا تتحرجوا من قتالهم فيه، وكان ذلك في عمرة
القضاء من العام المقبل (وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ) أي ذوات قصاص، أي
يجري فيها القصاص (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) والأمر للإباحة، إذ العفو جائز (وَاتَّقُواْ
اللّهَ) أي بترك الاعتداء (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بنصره وعونه.
البقرة 195 فضل
النفقة في الجهاد: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي بترك الغزو
والقتال وإنفاق المال فيه، روى أبو داود والترمذي وصححه من حديث أبي عمران التُّجيبي
قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه،
لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية
فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام، قلنا: هَلُمَّ نقيم في
أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم
في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل
الله حتى دفن بالقسطنطينية (وَأَحْسِنُوَاْ) أي إلى المحتاجين، أو أحسنوا في
كل أعمالكم (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فيثيبهم بجزيل الأجر والثواب.
البقرة 196 ما
جاء في الحج والعمرة: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) أي بعد الشروع في أدائهما (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) منعتم من إتمامهما، واضطررتم إلى التحلل (فَمَا اسْتَيْسَرَ) أي فعليكم ما تيسر (مِنَ
الْهَدْيِ) تذبحونَه، أي
المهدي، وأقله شاة قال ابن عباس: الشاة تجزي، رواه البخاري (وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ) لأن الحلق هو آخر النسك قبل التحلل
(حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي من الحرم، والظاهر أنه لا
يذبح هديه حيث أُحصر، ولقوله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق) ولكن قد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحر هديه بالحديبية يوم أحصر
بِها، وهي من الحل، ويحمل بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه حِلا كان أو
حرما، والحلق محمول على الأفضل والمطلوب، وإلا فالتحلل يحصل بالتقصير، والنساء ليس
عليهن حلق.
البقرة 196
ما جاء في محظورات الحج والعمرة: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ
أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) من قمل أو غيره فاحتاج إلى الحلق (فَفِدْيَةٌ) أي فعليه فدية (مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) روى الشيخان من حديث كعب بن عجرة
قال وقف علي رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم بالحديبية، والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى،
تجد شاة؟ فقلت لا، فقال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
البقرة 196
ما جاء في التمتع بالعمرة إلى الحج: (فَإِذَا أَمِنتُمْ) أي وتمكنتم من أداء المناسك (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) لأنه يباح له
محظورات الإحرام بالتحلل من العمرة، حتى يحرم بالحج يوم التروية، والقارن أيضا
متمتع يحب عليه الهدي، (فَمَن
لَّمْ يَجِدْ) أي الهدي (فَصِيَامُ) أي فعليه صيام (ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أي في زمان أداء مناسكه، ويدخل فيه وقت التحلل من العمرة، وفي صحيح
البخاري من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى
الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى؛ وفي رواية قالا: لم
يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) أي إلى أمصاركم وأهليكم (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) (ذَلِكَ) أي التمتع على الراجح، أو وجوب الهدي بالتمتع (لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ) لغير ساكني الحرم
المكي، ورد الوجه الثاني بأنه لو كان ذلك إشارة إلى وجوب الهدي لقال: ذلك على من...إلخ
(وَاتَّقُواْ اللّهَ) أي عقابه بطاعته (وَاعْلَمُواْ
أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
البقرة 197
ما جاء في الحج والعمرة: (الْحَجُّ) أي وقت جواز الإحرام به (أَشْهُرٌ
مَّعْلُومَاتٌ) وهي شَوّالٌ وذو
القِعدة، وعشر من ذي الْحَِجة، أو ذو الحجة كلها كما قال مالك، ويؤيده أن رمي
الجمرات يكون في أيام التشريق، وهي من أيام الحج، ولأن الحائض يجوز لها تأخير طواف
الإفاضة إلى أن تطهر، كما قال النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم لصفية لما حاضت: لعلها تحبسنا، ويرجح الوجه الأول أنه لا يجوز الأحرام
بالحج بعد طلوع الفجر يوم العاشر، يفوت الإحرام بالحج بطلوع الفجر ليلة النحر، وفي
حديث عروة بن مضرِّس قال: أتيت النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم بجمع، أي بالمزدلفة، فقال صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: من صلى هذه الصلاة معنا، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نَهارا فقد تم حجُّه
وقضى تفثَه، (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي ألزم نفسه الإحرام بالحج في
تلك الأشهر (فَلاَ رَفَثَ) أي الكلام الفاحش، أو الجماع (وَلاَ فُسُوقَ) أي المعاصي (وَلاَ
جِدَالَ) أي الخصام (فِي الْحَجِّ) أي في زمن الإحرام به (وَمَا
تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ) أي فاتركوا المعاصي واشتغلوا بالطاعات فإن الله يثيبكم (وَتَزَوَّدُواْ) أي من التقوى والعمل الصالح (فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، والزاد في الأصل ما يتخذه المسافر من الطعام والشراب، وفي صحيح البخاري
من حديث ابن عباس قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ،
وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا
النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآية، وعلى هذا يصير المعنى: فإن خير الزاد التقوى،
ومن التقوى أن تتقوا بما تتزودون سؤالَ الناس (وَاتَّقُونِ
يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) ففيها الحث على فعل الأسباب التي تجلب المنافع وتدفع المضار، وأنَّها لا
تنافي التوكل، وإنما الذي ينافيه هو العجز والكسل عن الأسباب.
البقرة 198
ما جاء في التجارة في الحج والعمرة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) أي إثم (أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) أي في طلبكم الرزق في مواسم الحج،
ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: كانت عُكاظ ومَجِنّةُ وذو الْمَجاز أسواقا
في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنَزلت.
البقرة 198
ما جاء في النُّزول بالمزدلفة: (فَإِذَا أَفَضْتُم) من إفاضة الماء أي إسالته، كأن
الأصل: إذا دفعتم أنفسكم (مِّنْ
عَرَفَاتٍ) وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع، أي بالإسراع، رواه البخاري (فَاذْكُرُواْ اللّهَ) بالتلبية والتكبير والدعاء، ويجوز أن يراد صلاة المغرب والعشاء (عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) قيل هو المزدلفة، أو جبل يقف
عليه الإمام بالمزدلفة، والراجح الأول لقول النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: "وَقَفْتُ هَاهُنَا وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ" (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أي لأجل هدايته لكم، أو كما
علمكم، فينبغي للعبد أن يذكر ربه بمقدار علمه (وَإِن كُنتُم
مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) أي وإنكم كنتم ضالين من قبل ذلك، وإن مخففة من الثقيلة، واللام في
"لمن" فارقة.
البقرة 199
ما جاء في الحج والعمرة: روى الشيخان من حديث عَائِشَةَ قالت: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ
دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ
سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ أَمَرَ
اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ
يَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أي من عرفة لا من المزدلفة،
و"ثم" هنا عطف لخبر على خبر، كأنه قال: ثم لا تخالفوا الناس أنتم معشر
الحمس، فتكون إفاضتكم من مزدلفة، بل لِتكنْ وقفتكم بعرفات فتُفيضوا من حيث أفاض
الناس (وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ) أي على ما كنتم ترتكبونه من المخالفات
في الجاهلية (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خالف قريشا في الجاهلية، فكان يقف بعرفات، ففي صحيح البخاري من حديث جُبَيْرِ
بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ
عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ مِنْ الْحُمْسِ، فَمَا
شَأْنُهُ هَا هُنَا؟.
البقرة 200
ما جاء في الحج والعمرة: (فَإِذَا قَضَيْتُم) أي أديتم (مَّنَاسِكَكُمْ) وفرعتم منها (فَاذْكُرُواْ
اللّهَ) ذكرا (كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) يعني أو كذكرٍ أشدَّ من ذكرهم؛ روي
أنّهم كانوا في الجاهلية إذا فرغوا من المناسك، يجلسون فيذكرون أيام آبائهم ويعدون
مفاخرَهم (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا) (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)
أي نصيب، يعني لا يجعلون من دعائهم نصيبا لسؤال الآخرة ونعيمها (وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً) (وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي احفظنا منها (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ) أي نصيب من الأجر مما كسبوه من
الأعمال الصالحة (وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يحاسب عباده فلا يشغله شأن عن
شأن.
البقرة 203
ما جاء في أيام التشريق: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ) أي بالتكبير عند رمي الجمرات
وأدبار الصلوات (فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) وهي الأيام الثلاثة من أيام
التشريق (فَمَن تَعَجَّلَ) أي في النفر من منى (فِي يَوْمَيْنِ) فنفر في اليوم الثاني (فَلاَ
إِثْمَ عَلَيْهِ) أي بتعجله (وَمَن تَأَخَّرَ) أي في النفر، حتى رمى في اليوم الثالث (فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ) بالتأخر، ردا على
أهل الجاهلية، فمنهم من يؤثم المعجل ومنهم من يؤثم المؤخر، وإلا فالثاني أفضل بلا
شك، وهو أكثر عملا، فكيف يكون عليه الإثم (لِمَنِ
اتَّقَى) أي هذه الأحكام
تذكرة للمتقين أي المؤمنين، لأنّهم هم الذين ينتفعون بِها (وَاتَّقُواْ اللّهَ) أي في كل ما تأتون وتذرون (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه للحساب والجزاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق