البقرة 75 تحريف اليهود
للتوراة: (أَفَتَطْمَعُونَ) الفاء حرف عطف، وهي في الأصل قبل همزة الاستفهام، ولكن لما كانت همزة
الاستفهام لك حق الصدارة صارت بعدها، والخطاب للمؤمنين (أَن يُؤْمِنُواْ) أي اليهود (لَكُمْ) أي مستجيبين لكم (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ) طائفة منهم وهم الأحبار (يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ) أي التوراة (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يبدلونه بكلام من تلقاء أنفسهم، ويحتمل أيضا يؤولونه حسب أغراضهم
وأهوائهم (مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) أي فهِموه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه حق وأنّهم على باطل (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ
قَالُواْ آمَنَّا) (وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ
أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ) أي بما بينه لكم خاصة، من نعت محمد في كتابكم، ومن أخذ العهود على
أنبيائكم بتصديقه ونصرته، يعني أنه سر ينبغي أن يُكتم (لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ) أي فكيف تخبرونَهم.
البقرة 77
جهل كثير من اليهود بالتوراة: (أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)
رد على قوله "ليحاجوكم به عند
ربكم" يعني: أيلومون أصحابَهم على تحديث المؤمنين بما ذكر في التوراة من صفة
محمد صلى الله عليه وعلى آله
وسلم، خوف أن يحاجوهم بذلك يوم
القيامة، ولا يعلمون أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، يعني: هم يعلمون ذلك وأن الحجة
قد قامت عليهم ولو لم يحدثوا بذلك المؤمنين (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ) إلا ما هم عليه من الأماني التي
يمنيهم بِها أحبارهم بأن الله يعفو عنهم ولا يؤاخذهم، وقيل: إلا ما يقرؤون قراءة
عادية من غير تدبر ولا معرفة المعنى (وَإِنْ
هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)
قصارى أمرهم الظن، من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم، فأنَّى
يُرجى منهم الإيمان .
البقرة 79 وعيد اليهود
على تحريفهم التوراة: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) الويل: الحسرة والهلكة، وفي الحديث: واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين
خريفا قبل أن يبلغ قعره (ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ) حيث يكتبون خلاف صفة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويبثونَها في سفهائهم وفي العرب، ويُخفون النسخ الصحيحة (لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ليحصلوا بما يكتبونه غرضا من
أغراض الدنيا الدنيئة (فَوَيْلٌ
لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) أي ما يقترفونه من المعاصي عامة،
وما يكسبونه من السُّحت والحرام خاصة.
البقرة 80 ادعاء اليهود
أنّهم لن يمكثوا في النار إلا أياما قليلة: (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً) أي قليلة، وهي أيام عبادتِهم العجل وهي أربعون يوما، أو سبعة أيام، لأن
عدد أيام الدنيا بزعمهم سبعة آلاف سنة، وهم سيعذبون عن كل ألف سنة يوما، وفي
الصحيح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم قال لهم: من أهل النار؟ قالوا:
نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اخسؤوا فيها والله لا نخلفكم
فيها أبدا. (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا) بأن وعدكم بذلك، إن كان الأمر
كذلك (فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ) (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، أي تكذبون على الله وتقولون
عليه بغير علم، وأم يجوز أن تكون منقطعة بمعنى بل، أي بل تقولون على الله الكذب.
البقرة 81
وعيد الكافرين وتبشير المؤمنين: (بَلَى) جواب عن زعم اليهود الْمَحْكِيِّ وإبطال له على وجه أعم، يشمَلهم وسائرَ
الكفرة المجرمين، كأنه قال: بلى تمسكم وغيرَكم دهرا طويلا وزمانا مديدا (مَن كَسَبَ سَيِّئَةً) هي السيئة الموجبة للخلود وهي الكفر (وَأَحَاطَتْ
بِهِ خَطِيئَاتُهُ) فهو مشمول بِها
ومغمور بِها من كل جوانبه (فَأُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ) أي أهلها الملازمون
لها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها أبدا، فلذلك كان الأولى تفسير السيئة بالكفر، حتى لا يعترض
من يقول بتخليد أهل الكبائر الذين لم يتوبوا منها، والأحاديث قد تواترت بأن بعض
أهل الكبائر يدخلون النار جزاء على ما اقترفوه، ثم يخرجون منها بعد ذلك (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
البقرة 83 إعراض اليهود
عن الوفاء بالمواثيق: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ) أي عهدهم الموثَّق
بالآيات المُنْزلة أو بالأَيْمان (لاَ
تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ) بيان للميثاق، أو التقدير: قائلين لهم ذلك، والخبر بمعنى النهي، وهو أبلغ
منه (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) أي وتحسنون بالوالدين إحسانا (وَذِي الْقُرْبَى) أي الأقربين من جهة الدم (وَالْيَتَامَى) جمع يتيم، وهو من مات أبوه من
الآدميين، قيل: وأمه أيضا، (وَالْمَسَاكِينِ) جمع مسكين، كأن الحاجة أسكنته (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ) قولاً (حُسْناً) أي ذا حُسن، أي خاطبوهم بالكلام الجميل الطيب، ويدخل فيه إرشادهم إلى
الخير ونَهيهم عن الشر بالكلمة الطيبة (وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ) أي المكتوبة في
شريعتهم (وَآتُواْ الزَّكَاةَ) أي الصدقة المفروضة عليهم أيضا (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الميثاق (إِلاَّ
قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ) أي وأنتم عادتكم ودأبُكم الإعراض، وهي حال مؤكدة للجملة قبلها.
البقرة 84
إعراض اليهود عن الوفاء بالمواثيق: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) أي عهدكم الموثق بالآيات أو
الأيمان (لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ) لا يقتل بعضكم بعضا (وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) أي لا يخرج بعضكم بعضا (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أي بالميثاق واعترفتم بلزومه (وَأَنتُمْ
تَشْهَدُونَ) أي وأنتم أيها
الموجودون الآن تشهدون على إقرار أسلافكم بذلك (ثُمَّ
أَنتُمْ) مبتدأ خبره (هَؤُلاء) أي الناقضون، كما تقول: أنت هذا تفعل كذا، ويجوز أن يكون هؤلاء منادى،
وجملة (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) خبر، أي يقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ) (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم) تتعاونون على إخراجهم (بِالإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ) كانت بنو النضير من
اليهود وهم حلفاء الخزرج، أعداء بني قريظة من اليهود وهم حلفاء الأوس، فكانوا
يتقاتلون فيقع منهم ما ذكره الله تعالى.
(وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) تحررونَهم من الأسر بإعطاء
الفداء (وَهُوَ) ضمير الشأن (مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) فتفدون الأسرى (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) حيث تستحلون قتل إخوانكم وإخراجهم من الديار (فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ) أي الكفر ببعض الآيات والإيمان
ببعض والقتل والإخراج بغير حق (إِلاَّ
خِزْيٌ) ذل وهوان (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الْعَذَابِ) وهو الخلود في النار
(وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي أنه لكم بالمرصاد، وقرأ نافع:
"يعملون" (أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ) أي آثروا (الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) واستبدلوها (بِالآَخِرَةِ) (فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) أي لا يجدون من ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
البقرة 87
تكذيب اليهود للرسل وقتلهم: (وَلَقَدْ آتَيْنَا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتَابَ) أي التوراة (وَقَفَّيْنَا
مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي أتبعناه بِهم وأرسلناهم من بعده، ومنهم: داود وسليمان وعُزَيْر وإلياس
واليَسَع ويونس وزكرياء ويحيى وغيرهم (وَآتَيْنَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) أي الآيات والحجج البينة الدالة على صدقه (وَأَيَّدْنَاهُ) أي قويناه (بِرُوحِ
الْقُدُسِ) وهو جبريل عليه
السلام، ومنه "قل نزله روح القدس من ربك بالحق" وكان تأييده بجبريل منذ
صباه، حيث كلم الناس في المهد (أَفَكُلَّمَا
جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) أي عن الإيمان بما جاؤوا به (فَفَرِيقاً) منهم (كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً) أي آخر (تَقْتُلُونَ) أي قتلتموهم، وعبر بالمضارع لاستحضار تلك الصورة البشعة واستعظامها وبيان
فظاعتها.
البقرة 88 طبع
الله على قلوب اليهود والكفرة بسبب طغيانِهم: (وَقَالُواْ) أي اليهود الموجودون في زمان
النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم (قُلُوبُنَا
غُلْفٌ) أي مغلفة مغشاة، لا
يصل إليها الإيمان (بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ) أي ليس كما قالوا بل قلوبهم
مخلوقة على الفطرة، لكن لعنهم الله وأبعد قلوبَهم عن الخير بإصرارهم على الكفر
والطغيان (فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) أي يؤمنون إيمانا قليلا، ويراد
بالقلة النفي المحض، فيكون المعنى عليه: لا يؤمنون البتة.
البقرة 89 استنصار
اليهود بالنبي الخاتِم قبل مبعثه: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ) أي عظيم (مِّنْ عِندِ اللّهِ) وهو القرآن (مُصَدِّقٌ
لِّمَا مَعَهُمْ) أي للتوراة (وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُواْ) أي يطلبون من الله
تعالى أن ينصرهم على المشركين، وذلك أنّهم كانوا إذا اشتدت الحرب بينهم وبين
المشركين، أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على مكان ذكر النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقالوا: اللهم إنا نسألك بحق
نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان، أن تنصرنا اليوم على عدونا، فينصرون (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ
بِهِ) أي جحدوه، وهذا أقبح الكفر، لأنّهم
كفروا بما يعرفون قطعا أنه الحق (فَلَعْنَةُ
اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) أي عليهم اللعنة والإبعاد من رحمة الله، ووضع الظاهر موضع المضمر للإشعار
بسبب حلول اللعنة وهو الكفر.
البقرة 90 كفر
اليهود بالنبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم حسدا له وللعرب: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ) أي باعوا (بِهِ أَنفُسَهُمْ) (أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ) أي أنّهم اختاروا الكفر على
الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه (بَغْياً) أي حسدا، والبغي الظلم، وقيل
أصله الطلب، والحاسد يطلب ما ليس له (أَن
يُنَزِّلَ) أي لأجل أن ينَزل (اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) أي من يختاره لرسالته وهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فَبَآؤُواْ) أي انقلبوا ورجعوا (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) قال ابن عباس: الغضب الأول لعبادة العجل، والثاني للكفر بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وَلِلْكَافِرِينَ) أي ولهم، والإظهار للإشارة إلى
سبب استحقاقهم العذاب (عَذَابٌ
مُّهِينٌ) أي مُخْزٍ مذل، وهذا
مجاز، وهو من الإسناد إلى السبب.
البقرة 91
كفر اليهود بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حسدا له: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا
أَنزَلَ اللّهُ) أي القرآن (قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا) أي التوراة فحسب (وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ) أي ما بعده وما سواه (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ) أي للتوراة (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)حيث قتلتم الأنبياء مع ادعائكم الإيمان بالتوراة، وهي لا تُسَوِّغه لكم،
فالحاصل أنّهم كفروا بالتوراة كما كفروا بالقرآن، ولو آمنوا بالتوراة لآمنوا
بالقرآن، لأن القرآن مصدق للتوراة، وإنما يتشبثون بالقديم زورا ليقفوا في وجه
الحق، وقد أخذ الله عليهم العهد في التوراة أن يؤمنوا بالقرآن، قال تعالى
"وإنه لتنْزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من
المنذرين، بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الأولين، أو لم يكن لهم آيةً أن يعلمه
علماء بني إسرائيل".
البقرة 92 تكذيب اليهود
في زعمهم الإيمان بالتوراة: (وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) بالآيات الدالة على صدقه
والمعجزات المؤيدة لنبوته كاليد والعصا (ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها (مِن بَعْدِهِ) أي مجيئه بالبينات، أو من بعد ما
رأيتم منه التوحيدَ ونبذَه للشرك (وَأَنتُمْ
ظَالِمُونَ) أي واضعون للأمر في
غير موضعه، لأنكم صرفتم العبادة لمن لا يستحقها (وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) أي عهدكم الموثق بالآيات أو الأيْمَان (وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ) بعدما رفضتم
الانقياد لشرائع التوراة، وقلنا لكم: (خُذُواْ
مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) أي بجد (وَاسْمَعُواْ) سماع تقبل وطاعة (قَالُواْ سَمِعْنَا) قولك (وَعَصَيْنَا) أمرك (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي خالط قلوبَهم حبُّ العجل (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم (قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ) أي بالتوراة كما تزعمون، من عبادة العجل وما تأتونه من الرذائل (إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ).
البقرة 94 حرص اليهود
الشديد على جمع الدنيا: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الآَخِرَةُ) أي نعيمها، لأنّهم
زعموا أن الجنة لهم دون غيرهم (عِندَ
اللّهِ) أي في حكمه (خَالِصَةً) مخصوصة بكم (مِّن
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم، فإن من أيقن أنه صائر
إلى الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار (وَلَن
يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) أي ما عاشوا (بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما عملوه من المعاصي الموجبة للنار (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) عليم بِهم فيجازيهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) التنوين لإفادة نوع من الحياة،
وهي الحياة المتطاولة (وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُواْ) أي أحرص من المشركين، (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ) يعيش (أَلْفَ سَنَةٍ) (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ) أي تعميره لن يدفع عنه العذاب (وَاللّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي عليم بِهم فهو مجازيهم.
البقرة 97 جبريل عدو
اليهود من الملائكة : (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ) هو الملك الذي ينْزل بالوحي على
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو عدو لليهود، لأنه بزعمهم ملك
موكل بالخسف والدمار، وأنه لو كان ميكائيل الموكل بالقطر والنبات لاتبعوه (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ) أي بأمره وبعلمه، وكأن المعنى:
من كان عدوا لجبريل فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن (مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب السماوية (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) خصهما بالذكر تشريفا وتفضيلا، وفي قراءة نافع: "ميكائل" (فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) أي فهو كافر، فليأذن بحرب من
الله (وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ) أي واضحات دالات على
صدقك (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ) أي المتمردون في الكفر
المتجاوزون للحدود.
البقرة 100 إخفاء
اليهود لصفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً) الواو عاطفة وتقدير الكلام:
أكفروا وكلما عاهدوا عهدا (نَّبَذَهُ
فَرِيقٌ مِّنْهُم) أي نقضوه وتركوا
العمل به، وأصل النبذ طرح ما لا يُعتَدُّ به (بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) فيه رد لتوهم أن من لم ينبذ منهم جهارا مؤمن (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ) يعني محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم (مُصَدِّقٌ
لِّمَا مَعَهُمْ) أي مصدق لما في
التوراة من التوحيد وأصول الدين، (نَبَذَ
فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ) أي فريق منهم، وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتعريفهم بما في الصلة إيذانا
بقبح صنيعهم، إذ كونُهم أوتوا الكتاب يقتضي تعظيمه والعمل بما فيه، لا نبذه وراء
الظهور (كِتَابَ اللّهِ) أي التوراة التي ذكر فيها نعت
النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم (وَرَاء
ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) أي ما فيه من ذكره صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
البقرة 102 نبذ اليهود
التوراة واتباعهم السحر الذي كانت تعلمه الشياطين للناس: (وَاتَّبَعُواْ) معطوف على نبذوا كتاب الله (مَا تَتْلُواْ) أي ما تقرأ أو ما تتبع (الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أي من السحر في عَهْدِ سليمان النبي (وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ) كما زعمت يهود، حيث
قالوا: إن سليمان لم يكن نبيا وإنما كان ساحرا (وَلَكِنَّ
الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) السحر يشبه الخارق، يتوصل إليه
بالتقرب إلى الشيطان بفعل القبائح، وقد يبلغ به أن يطير في الهواء أو يمشي في
الماء؛ روي أن الشياطين كانوا يعلمون الناس السحر بما يسترقون السمع من السماء،
فأشربته قلوب الناس واتخذوه دواوين، فأطلع الله على ذلك نبيه سليمان، فأخذها
وقذفها تحت الكرسي، فلما مات قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنْز سليمان؟
فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسخته الأمم.
البقرة 102
نبذ اليهود التوراة، واتباعهم السحرَ الذي أنزل ببابل، على الملَكين: هاروت
وماروت: (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) أي واتبعوا السحر الذي أُنزل على
الملَكين (بِبَابِلَ) بالعراق (هَارُوتَ وَمَارُوتَ) أنزل هذان الملكان بإذن الله
وأمره ليعلموا الناس السحر ابتلاء واختبارا، فلذلك قال: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ
إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي ابتلاء من الله (فَلاَ
تَكْفُرْ) أي بتعلم السحر أو
العمل به، والظاهر أنه لا يكفر بتعلم السحر ما لم يعمل به، ولكنه علم غير نافع
فالإثم حاصل بتعلمه، إلا إذا كان تعلمه بقصد تبيين فساده للناس (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) لا يصيبه إلا ما كتب الله له من ذلك (وَيَتَعَلَّمُونَ
مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ) فالضرر حاصل بتعلمه، إلا من تعلمه لِمقصد صحيح.
(وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ) أي استبدل السحرَ وكل باطل بالحق
(مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) أي نصيب (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ) أي بئس الشيء الذي باعوا (بِهِ
أَنفُسَهُمْ) فهم قد بذلوها
بالسحر الذي ينالون به حظوظ الدنيا، ولكنه سيؤدي بِهم إلى نار الآخرة (لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) خسرانَهم لكفوا وامتنعوا، ولكنهم
آثروا الفانية على الباقية، فطُبع على قلوبِهم، (وَلَوْ
أَنَّهُمْ آمَنُواْ) أي بالرسول والقرآن (واتَّقَوْا) أي اجتنبوا المعاصي (لَمَثُوبَةٌ
مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ) ثواب الله خير لهم من حظوظ الدنيا (لَّوْ
كَانُواْ يَعْلَمُونَ) أي لآمنوا واتقوا.
قصة هاروت
وماروت: روى أحمد وابن حبان
بإسناد حسن من حديث ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَقُولُ: إِنَّ آدَمَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى
الأَرْضِ، قَالَتْ الْمَلائِكَةُ أَيْ رَبِّ (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا) الآية، قَالُوا رَبَّنَا نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: هَلُمُّوا مَلَكَيْنِ مِنْ الْمَلائِكَةِ
حَتَّى يُهْبَطَ بِهِمَا إِلَى الأَرْضِ، فَنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلانِ، قَالُوا
رَبَّنَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، فَأُهْبِطَا إِلَى الأَرْضِ وَمُثِّلَتْ
لَهُمَا الزُّهَرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ، فَجَاءَتْهُمَا فَسَأَلاهَا
نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تَكَلَّمَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ
الإِشْرَاكِ، فَقَالا: وَاللَّهِ لا نُشْرِكُ بِاللَّهِ أَبَدًا، فَذَهَبَتْ
عَنْهُمَا، ثُمَّ رَجَعَتْ بِصَبِيٍّ تَحْمِلُهُ فَسَأَلاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ
لا وَاللَّهِ حَتَّى تَقْتُلا هَذَا الصَّبِيَّ؛ فَقَالا: وَاللَّهِ لا نَقْتُلُهُ
أَبَدًا؛ فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ بِقَدَحِ خَمْرٍ، تَحْمِلُهُ فَسَأَلاهَا
نَفْسَهَا، قَالَتْ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ، فَشَرِبَا
فَسَكِرَا فَوَقَعَا عَلَيْهَا، وَقَتَلا الصَّبِيَّ. فَلَمَّا أَفَاقَا قَالَتْ
الْمَرْأَةُ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُمَا شَيْئًا مِمَّا أَبَيْتُمَاهُ عَلَيَّ إِلا
قَدْ فَعَلْتُمَا حِينَ سَكِرْتُمَا، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،
فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا. والله سبحانه أعلم.
البقرة 104 تجنب
الألفاظ التي تثير الشبهة في الخطاب واختيار غيرها: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا) من المراعاة، وأصلها الرعاية
والرعي، أي حفظ مصالح الغير، فنهاهم الله تعالى عن اللفظ فقط (وَقُولُواْ انظُرْنَا) أي انظر إلينا بعين رعايتك، وذلك أن هذه الكلمة عند اليهود فيها سب قبيح
بلسانِهم، فهم يعنون بِها الرُّعونة والجهل والحُمق، فلما سمعوها من الصحابة،
صاروا يجهرون بِها ليَسُبوا بِها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأرشد الله تعالى المؤمنين إلى تحاشي هذا اللفظ واستعمال لفظ لا يثير شبهة
(وَاسْمَعُوا) أي واعقلوا ما يتلى عليكم (وَلِلكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ) (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن
رَّبِّكُمْ) فهم يحسدونكم فلن
يتوانوا عن أَذِيَّتكم (وَاللّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) (وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فلا ينبغي أن يُحسد الفقير على
ما تفضل الله به عليه، بل ينبغي أن يُسأل صاحب الفضل العظيم والخزائن التي لا
تنفَد.
تفسير 64
البقرة 106 النسخ في القرآن: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ) النسخ انتهاء التعبد بقراءة آية،
أو الحكم المستفاد منها (أَوْ
نُنسِهَا) أي من قلبك، بأن لا
تبقى في حفظك (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا) للعباد في النفع والثواب (أَوْ مِثْلِهَا) في الثواب (أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملة ذلك الإتيان بما هو خير
من المنسوخ أو مثله (أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فهو يتصرف في ملكه كيف يشاء (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ
نَصِيرٍ) الولي المالك، أي من
يتولاكم، والنصير المعين، والفرق بينهما أن المالك قد لا يكون قادرا على النصرة،
والنصير قد لا يملك شيئا، فمن علم أن الله وليه ونصيره، يعلم قطعا أن لا يفعل به
إلا الخير، فلا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا
سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ) أي أن تجادلوه بغير علم كما جادلتم موسى من قبل (وَمَن
يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) أي خرج عن الصراط السوي.
البقرة 109 حرص اليهود
على إضلال المؤمنين: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً) أي أحبوا ذلك وتمنوه (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) أي حاسدين (مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) بِما قرؤوه من النعوت في
التوراة، وبما أيد الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من البينات (فَاعْفُواْ
وَاصْفَحُواْ) العفو ترك العقوبة،
والصفح ترك التأنيب، وأصله من تولية صفحة الوجه إعراضا (حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ) وهو الأمر بالقتال عندما يحين
أوانه حسب ما تقتضيه حكمته سبحانه، ومنه قوله تعالى "قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر" إلى قوله "من الذين أوتوا الكتاب" (إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فاصفحوا فإن الله ناصركم
ومنتقم من الكافرين.
البقرة 110 الحث
على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وترك مقاتلة الكفار عند الضعف: (وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ) أي أدوها بآدابِها
وشروطها (وَآتُواْ الزَّكَاةَ) أي أعطوها المساكين وغيرَهم، وهذا
الأمر معطوف على قوله تعالى: "فاعفوا واصفحوا"، أي استعينوا بِهاتين
العبادتين، لدفع كيد الكافرين عنكم، حتى تؤمروا بأمر من الله بقتالهم، وهذا دليل
من بين أدلة أخرى، على أن المؤمنين يُطلب منهم مداراة الكافرين عند الضعف،
والاشتغالُ بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما من الأعمال الصالحة (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ
عِندَ اللّهِ) أي تجدوا ثوابَه مدخرا
لكم عنده (إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم بكل ما تعملون، فيثيبكم
عليه.
البقرة 111 ادعاء
اليهود أن الجنة خاصة بِهم: (وَقَالُواْ) معطوف على "ودَّ"، (لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ
نَصَارَى) أي قالت اليهود: لن
يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا النصارى (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) جمع أمنية، وهي ما يُتمنى، أي تلك واحدة من أمانيهم الباطلة المزعومة،
يضللون بِها أتباعهم، ويُروون بِها غليل غيظهم (قُلْ
هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ) اي دليلكم وحجتكم على صحة دعواكم (إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ) (بَلَى) أي سيدخلها كل مؤمن (مَنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ) أي نفسه، والمعنى انقاد لربه بالطاعات وترك المعاصي، والتعبير بالوجه
لأنه أشرف الأعضاء ومعدن الحواس (وَهُوَ
مُحْسِنٌ) أي في جميع أعماله (فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
البقرة 113 تضليل
اليهود للنصارى والنصارى لليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ) على شيء يُعتدُّ به في الدين (وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) روي أن يهود المدينة ووفد نصارى نجران، تماروا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتسابوا، وأنكرت اليهود الإنجيل
ونبوة عيسى، وأنكرت النصارى التوراة ونبوة موسى (وَهُمْ
يَتْلُونَ الْكِتَابَ) أي وهم يعلمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يزعمون (كَذَلِكَ) أي الأمر كذلك، (قَالَ
الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) أي مشركو العرب، أي كما قالوا ما قالوا قاله أمثالهم من الجاهلين (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) قالوا: محمد وأصحابه ليسوا على شيء (فَاللّهُ
يَحْكُمُ) أي يفصل ويقضي (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ).
البقرة 114 وعيد من يخرب
المساجد: (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحدَ أظلم (مِمَّن
مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) "أن يذكر" بدل اشتمال
من مساجد (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) أي هدمها أو تعطيلها (أُوْلَئِكَ) أي الظالمون المانعون من عمارتِها الساعون في خرابِها (مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ) أي من الله، واستدل أبو حنيفة
بالآية على جواز دخول الكافر المسجد إذا دخل بخشية وخشوع، ومنع من ذلك مالك،
لقوله: "إنما المشركون نجس"، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره، وهو
الأظهر، والله أعلم (لهُمْ
فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) أي ذل وهوان، بقتل رؤوسهم، وكسر أصنامهم وتسفيه أحلامهم (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهو عذا النار .
البقرة 115 بيان
أن الأرض كلها مسجد للمؤمنين: (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ) ناحية شروق الشمس (وَالْمَغْرِبُ) أي ناحية غروبِها، وكنى بِهما عن مالكية كل شيء (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ) أي ففي أي مكان وليتم وجوهكم جهةَ القبلة (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) أي فهناك جهته التي أمرتم بِها، فلا يختص ذلك بمسجد دون مسجد أو بمكان
دون آخر، وفي الحديث الصحيح: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي
أدركته الصلاة فليصل"، أو فأينما تولوا فالله سبحانه معكم عليم بكم مطلع
عليكم، (إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ) محيط بالعباد ملكا ورحمة (عَلِيمٌ) بمصالح عباده وأعمالهم، لا تخفى عليه خافية.
البقرة 116 زعم
اليهود والنصارى والكافرين أن الله اتخذ ولدا: (وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا) قالت اليهود عزير ابن الله،
وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، تزوج الله بناتِ
سَرَوَاتِ الجن وولد الملائكة، "وجعلوا بينه وبين الْجِنَّةِ نسبا" (سُبْحَانَهُ) تنْزيه وتبْرئة له عما قالوا (بَل
لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي أنه غني بملكه لا يحتاج إلى شيء، ولا إلى صاحبة أو ولد (كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) أي كل ما فيهما منقاد له سبحانه (بَدِيعُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي مبدعهما، والإبداع اختراع الشيء لا عن مادة، أو على غير مثال (وَإِذَا قَضَى أَمْراً) أي أراد إتمامه وإنفاذه (فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) أي فإن ذلك الأمر يحصل لا محالة بلا مهلة.
البقرة 118
الإنكار على من يطلب الآيات: (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) أي جهلة المشركين (لَوْلاَ) أي هلاَّ (يُكَلِّمُنَا اللّهُ) بأنك رسوله كما يكلم الملائكة (أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ) دالة على صدقك، وهذا عناداً منهم وجحودا، لما آتاهم الله من الآيات
البينات والحجج الباهرات. ويجوز أن يراد: آية مقترحة منهم، قال تعالى: "وما
منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بِها الأولون" أي فأهلكناهم بتكذيبهم (كَذَلِكَ) أي الأمر (قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ
قَوْلِهِمْ) كقول اليهود:
"أرنا الله جهرة" (تَشَابَهَتْ
قُلُوبُهُمْ) أي قلوب السابقين
واللاحقين في العمى والعناد (قَدْ
بَيَّنَّا الآيَاتِ) أي أنزلناها بينة
واضحة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا تعتريهم الشبه ولا يصدهم
العناد.
البقرة 119 لا
إكراه في الدين : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) أي مؤَيَّدا أو متلبِّسا (بِالْحَقِّ) أي حال كونك (بَشِيرًا) للطائعين (وَنَذِيرًا) للعاصين، ولا يمكنك أن تُجبر
أحدا أو تُكرهه على الإيمان، (وَلاَ
تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) لست مسؤولا عنهم، لأنك قد بلغت، وما عليك إلا البلاغ، وقرأ نافع:
"ولا تَسْأَلْ"، أي بلِّغْهم الحق وأقم عليهم الحجة، ولا تسأل عن عاقبة
أمرهم، وفيها إيذان بفظاعة ما يستحقونه وما يحِل بِهم من الخزي والعذاب، أي اترك
السؤال عنهم، فإن ما سيحل بِهم في غاية الفظاعة، والجحيم: كل نار في مهواة شديدة
التأجج والاضطرام، أي نار جهنم.
البقرة 120 التحذير من
كيد اليهود والنصارى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) فيه تيئيس للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إيمانٍهم، لما كان منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحرص الشديد على إسلامهم (قُلْ
إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى) أي دين الله تعالى هو الحق، لا باطلكم الذي تفترونه على الله، وهذا رد
على زعمهم أنّهم على الحق وغيرهم على باطل (وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم) أي ولئن اتبعتَ ملتهم، وعبر عنها بالأهواء إيذانا بأنّهم غيروا وحرفوا
وبدلوا واتبعوا أهواءهم (بَعْدَ
الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي الوحي (مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ
نَصِيرٍ) أي من يتولاك أو
ينصرك من عقابه.
البقرة 121 الحث
على تدبر كلام الله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) أي من اليهود والنصارى (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) يقرؤونه حق قراءته، وهي قراءة
يتواطأ فيها القلب مع اللسان، ويتدبر المعنى، ويعقِل عن الله ما يأمر وما ينهى،
وهذه الجملة جاءت اعتراضا لبيان حال طائفة قليلة من مؤمني أهل الكتاب، بعد ذكر
أحوال الكفرة (أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بكتابِهم، ويجوز حمل الذين
أوتوا الكتاب على العموم، فيدخل فيه أتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتكون الآية حثا لهم جميعا على حسن تلاوة الكتاب، وإن كان السياق والظاهر
يقتضي أنّها في بني إسرائيل خاصة (وَمن
يَكْفُرْ بِهِ) بالتحريف والتكذيب (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) خسرت تجارتُهم لأنهم اشتروا
الكفر بالإيمان.
البقرة 122 تذكير
اليهود بنعم الله وبيوم القيامة: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي اذكروها بشكر المنعم بِها (وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) بأن جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا، قبل أن ينْزع منهم هذا الفضل ويصير
إلى خير أمة أخرجت للناس (وَاتَّقُواْ
يَوْماً) عظيما وهو يوم
الحساب والجزاء (لاَّ تَجْزِي) لا تُغني ولا تدفع (نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً) أي من الأهوال (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) أي فداء (وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ) أي إلا من بعد إذنه لمن يشاء
ويرضى (وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) لا ينقذون من العذاب.
البقرة 124 إبراهيم
الخليل إمام الأنبياء من بعده: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ) أي بأمور، والابتلاء
الاختبار، والمراد به التكليف، وإضافة الرب إلى ضميره تشريف له، وإيذان بأن ذلك
الابتلاء يرشحه لأمر عظيم (فَأَتَمَّهُنَّ) أي أداهن على الوجه الأتم (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) الإمام القدوة الذي يأتم الناس
به، والمراد بالإمامة هنا إمامة النبوة (قَالَ
وَمِن ذُرِّيَّتِي) الذرية نسل الرجل (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) عبر بالعهد عن الإمامة إشارة إلى
أنَّها أمانة لا يقوم بِها إلا من شاء الله تعالى من عباده، وفي هذه الآية قطع
لأطماع الكفرة الذين يتمنون النبوة، واستدل بِها الرافضة على نفي إمامة أبي بكر
وعمر وعثمان، لأنّهم عاشوا مدة مديدة على الشرك، وهو مردود عليهم بأن الإمامة
نالتهم وهم في قمة كمال إيمانِهم.
البقرة 125
فضل الكعبة وجعلها مثابة للناس: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أي الكعبة (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يثوبون إليه، فهو مجمع لهم ومعاذ وملجأ (وَأَمْناً) أي موضع أمن للناس والطير والوحش،
إلا الخمس الفواسق المأمور بقتلها (وَاتَّخِذُواْ
مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) أي موضع صلاة، المقام: هو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام،
وإسماعيل يناوله الحجارة في بناء البيت، وفيه أثر قدميه، أي وقلنا لهم ذلك، وفي
الصحيح أن عمر قال للنبي : لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنَزلت، وهي من موافقات عمر،
والأمر للاستحباب، وقرأ نافع: واتخَذوا، أي الناس، اتخذوا من مقام إبراهيم، وهو
مكانه الذي أسكن فيه ذريته، وهو الكعبة، قبلةً يصلون إليها.
البقرة 126 إبراهيم
الخليل وبناء الكعبة: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ) أي وصينا، أو أمرنا (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ) من كل ما لا يليق من الأوثان والأنجاس (لِلطَّائِفِينَ) الذين يطوفون حول الكعبة (وَالْعَاكِفِينَ) الجالسين من غير طواف (وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ) المصلين، أي لأجلهم،
وخُص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنّهما أفضل هيئاته في الصلاة،
وأقرب أحواله إليه تعالى (وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) أي آمنا أهلُه، أو ذا أمن (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) أي من أصنافها (مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) بدل بعض من أهله (قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) أي متاعا أو زمانا قليلا، أي
أرزقه أيضا (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) لاستحقاقه إياه (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس النار مصيرهم.
البقرة 127 دعوات
إبراهيم وإسماعيل عند بناء الكعبة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ) عبر بالمضارع استحضارا للصورة (الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) جمع قاعدة وهي الأساس، والمراد
رفع البناء عليها، أو المراد بالقواعد ساقات البناء، وكل ساقة قاعدة لما فوقها (وَإِسْمَاعِيلُ) ابن إبراهيم عليه السلام من هاجر (رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يقولان، والتقبل
مجاز عن الإثابة والرضا (إِنَّكَ
أَنتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بأحوالنا ونياتنا (رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي منقادين أو مخلصين لك (وَمِن
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً) أي جماعة (مُّسْلِمَةً لَّكَ) (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أي معالم الحج (وَتُبْ
عَلَيْنَآ) وفقنا للتوبة أو
تقبلها منا (إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الذي يقبل التوبة، ويقابل الذنوب
بالإحسان.
البقرة 129 محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعوة جده إبراهيم الخليل: (رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي أرسل فيهم (رَسُولاً مِّنْهُمْ) ليكون أشفق عليهم، والمراد ذرية إبراهيم وإسماعيل، ولم يبعث الله من ذرية
إسماعيل سوى محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من
ذرية إسحاق بن إبراهيم، وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة قال: قلت يا نبي
الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها
قصور الشام (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) أي آيات كتابك، وسميت آيات لأنّها
علامات دالة على التوحيد والنبوة (وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الحكمة وضع الأشياء في مواضعها، ومعناها هنا حقائق الكتاب ودقائقه
وأسراره، فلذا فسرت بالسنة لأنّها المبينة للكتاب (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشبهات، وقاذورات الشهوات (إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ) الغالب على أمره (الحَكِيمُ) المُحكِم لما يريد.
البقرة 130 فضل
ملة إبراهيم الخليل: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) استفهام بمعنى النفي، أي لا يرغب
عنها أحد (إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) جعلها مُهانة ذَليلة (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) اخترناه بالرسالة والإمامة (وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي من زمرتِهم وجماعتهم (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي اثبُتْ على إسلامك واستقم على
التوحيد، أو المراد بالإسلام الطاعة والانقياد لجزئيات الأحكام (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (وَوَصَّى بِهَا) أي بالملة (إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ) وقرأ نافع:
"وأوصى" (وَيَعْقُوبُ) أي أوصى أيضا بِها أبناءه قائلا
لهم (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الدِّينَ) أي شرع لكم الدين
الذي هو صفوة الأديان ووفقكم للأخذ به (فَلاَ
تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) أي اثبتوا على الإسلام حتى تموتوا وأنتم مسلمون.
البقرة 133 وصاة
يعقوب لأبنائه بالتوحيد: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) نزلت لأن اليهود
زعموا أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية، يعني ما كنتم حاضرين (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ) بدل من الأول (مَا
تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي) أي بعد موتي (قَالُواْ
نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) هو عم يعقوب، وإنما عده من آبائه
تغليبا للأكثر على الأقل (وَإِسْحَقَ) هو أبو يعقوب (إِلَهًا وَاحِدًا) منصوب على الحال أو المدح (وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ) مذعنون مقرون
بالعبودية، أو منقادون مستسلمون لأمره ونَهيه (تِلْكَ
أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) مضت (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) انتسابكم إليهم لا ينفعكم، وإنما
ينفعكم موافقتهم واتباعهم (وَلاَ
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) مقررة لما تقدم، وقيل: لا تؤاخذون بسيئاتِهم، واعترض بأنّهم منَزهون عن
كسب السيئات، والله أعلم.
البقرة 135 فضل
ملة إبراهيم الحنيف: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى) قالت اليهود كونوا هودا، وقالت
النصارى كونوا نصارى (تَهْتَدُواْ) للحق، أو إلى طريق الجنة، جواب
الأمر، أو على تقدير شرط محذوف: "إن تكونوا هودا تَهتدوا" وذلك أن يهود
المدينة ونصارى نجران خاصموا المسلمين، كل فرقة تزعم أنّها أحق بدين الله من غيرها
(قُلْ) خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، (بَلْ) نتبعُ (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) حال من إبراهيم، أي مستقيما، أو
مائلا عن الباطل إلى الحق (وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فيها رد على أهل الكتاب والمشركين الذين يدَّعون اتباع إبراهيم، مع ما هم
عليه من الشرك، وادعاء أن الله اتخذ الصاحبة والولد.
البقرة 136 الإيمان
بكل الرسل من غير تفريق: (قُولُواْ) خطاب للمؤمنين (آمَنَّا
بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا) أي القرآن (وَمَا
أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ) وهم أولاد يعقوب، وقد اختلف
الناس في نبوتِهم (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى) أي التوراة (وَعِيسَى) أي الإنجيل (وَمَا
أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ) تعميم بعد التخصيص (لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ) أي بين أحد وآخر، كما فرق أهل الكتاب فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، بل نؤمن
بِهم جميعا (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) خاضعون له بالطاعة مذعنون له
بالعبودية، أو منقادون لأمره ونِهيه.
البقرة 137 وعد
الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله
وسلم بكفاية شر اليهود: (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم
بِهِ) أي بالذي آمنتم به (فَقَدِ اهْتَدَواْ) أي إلى الطريق المستقيم، لأنه لا مثل لما آمنوا به فهو هو، فالمثل هنا
كالمثل في قوله تعالى "وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله" أي عليه (وَّإِن تَوَلَّوْاْ) أي أعرضوا (فَإِنَّمَا
هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي مخالفة أو
منازعة، وعبر بالجملة الاسمية لإفادة أنّهم مداومون على الشقاق ثابتون عليه (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ) أي سيكفيك شقاقهم وكيدهم، وفيه
تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم وتفريج للمؤمنين بوعد النصر
والغلبة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لدعائك (الْعَلِيمُ) بنيتك وإخلاصك في الدعوة إليه ونصرة دينه، أو السميع للكافرين العليم
بأحوالهم، يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون من المكايد.
البقرة 138 الإسلام
أفضل صبغة للمرء: (صِبْغَةَ اللّهِ) هي مصدر مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: صبغَنا الله صبغته، ويمكن أن تكون
بدلا من ملة إبراهيم، ويجوز أن تكون منصوبة على الإغراء، أي الزموا صبغته (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) تمييز منقول عن المبتدأ،
والتقدير: ومن صبغته أحسن من صبغة الله، أي لا أحد، وهذه استعارة تحقيقية تصريحية،
شبه ظهور علامات الإيمان وآثاره على المؤمنين، بظهور الصبغ على المصبوغ (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) أي خاضعون مستكينون، أو موحدون مطيعون، وهذه الآية رد على النصارى حيث
كانوا يصبغون أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية، ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان
لغيرهم، وإن كان مساق الكلام فيهم وفي اليهود، لكن لا يمتنع رد باطل كل فريق منهم،
كأنّهم مشتركون في ذلك الصنيع.
البقرة 139 رد
مزاعم اليهود والنصارى بشأن إبراهيم: (قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ) أي في دينه وتزعمون أن الحق ما
أنتم عليه (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) أي مالك أمرنا ومالك أمركم،
ففيها وعيد لهم على المجادلة بغير حق (وَلَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) فلا يحاسب أحد بعمل غيره (وَنَحْنُ
لَهُ مُخْلِصُونَ) أي في تلك الأعمال
وغيرها، فلا سبيل لكم إلى المحاجة، لأنكم تركتم دينه ولم تخلصوا له العبادة. (أَمْ
تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى) وقرأ نافع: "أم يقولون" (قُلْ
أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً
عِندَهُ مِنَ اللّهِ) والمراد شهادتُهم
بما ذكر من نعوت النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم في التوراة والإنجيل (وَمَا
اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يعني فلا تفلتون من عقابه. (تِلْكَ
أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) (وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).
البقرة 75 تحريف اليهود
للتوراة: (أَفَتَطْمَعُونَ) الفاء حرف عطف، وهي في الأصل قبل همزة الاستفهام، ولكن لما كانت همزة
الاستفهام لك حق الصدارة صارت بعدها، والخطاب للمؤمنين (أَن يُؤْمِنُواْ) أي اليهود (لَكُمْ) أي مستجيبين لكم (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ) طائفة منهم وهم الأحبار (يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ) أي التوراة (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يبدلونه بكلام من تلقاء أنفسهم، ويحتمل أيضا يؤولونه حسب أغراضهم
وأهوائهم (مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) أي فهِموه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه حق وأنّهم على باطل (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ
قَالُواْ آمَنَّا) (وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ
أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ) أي بما بينه لكم خاصة، من نعت محمد في كتابكم، ومن أخذ العهود على
أنبيائكم بتصديقه ونصرته، يعني أنه سر ينبغي أن يُكتم (لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ) أي فكيف تخبرونَهم.
البقرة 77
جهل كثير من اليهود بالتوراة: (أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)
رد على قوله "ليحاجوكم به عند
ربكم" يعني: أيلومون أصحابَهم على تحديث المؤمنين بما ذكر في التوراة من صفة
محمد صلى الله عليه وعلى آله
وسلم، خوف أن يحاجوهم بذلك يوم
القيامة، ولا يعلمون أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، يعني: هم يعلمون ذلك وأن الحجة
قد قامت عليهم ولو لم يحدثوا بذلك المؤمنين (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ) إلا ما هم عليه من الأماني التي
يمنيهم بِها أحبارهم بأن الله يعفو عنهم ولا يؤاخذهم، وقيل: إلا ما يقرؤون قراءة
عادية من غير تدبر ولا معرفة المعنى (وَإِنْ
هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)
قصارى أمرهم الظن، من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم، فأنَّى
يُرجى منهم الإيمان .
البقرة 79 وعيد اليهود
على تحريفهم التوراة: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) الويل: الحسرة والهلكة، وفي الحديث: واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين
خريفا قبل أن يبلغ قعره (ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ) حيث يكتبون خلاف صفة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويبثونَها في سفهائهم وفي العرب، ويُخفون النسخ الصحيحة (لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ليحصلوا بما يكتبونه غرضا من
أغراض الدنيا الدنيئة (فَوَيْلٌ
لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) أي ما يقترفونه من المعاصي عامة،
وما يكسبونه من السُّحت والحرام خاصة.
البقرة 80 ادعاء اليهود
أنّهم لن يمكثوا في النار إلا أياما قليلة: (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً) أي قليلة، وهي أيام عبادتِهم العجل وهي أربعون يوما، أو سبعة أيام، لأن
عدد أيام الدنيا بزعمهم سبعة آلاف سنة، وهم سيعذبون عن كل ألف سنة يوما، وفي
الصحيح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم قال لهم: من أهل النار؟ قالوا:
نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اخسؤوا فيها والله لا نخلفكم
فيها أبدا. (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا) بأن وعدكم بذلك، إن كان الأمر
كذلك (فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ) (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، أي تكذبون على الله وتقولون
عليه بغير علم، وأم يجوز أن تكون منقطعة بمعنى بل، أي بل تقولون على الله الكذب.
البقرة 81
وعيد الكافرين وتبشير المؤمنين: (بَلَى) جواب عن زعم اليهود الْمَحْكِيِّ وإبطال له على وجه أعم، يشمَلهم وسائرَ
الكفرة المجرمين، كأنه قال: بلى تمسكم وغيرَكم دهرا طويلا وزمانا مديدا (مَن كَسَبَ سَيِّئَةً) هي السيئة الموجبة للخلود وهي الكفر (وَأَحَاطَتْ
بِهِ خَطِيئَاتُهُ) فهو مشمول بِها
ومغمور بِها من كل جوانبه (فَأُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ) أي أهلها الملازمون
لها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها أبدا، فلذلك كان الأولى تفسير السيئة بالكفر، حتى لا يعترض
من يقول بتخليد أهل الكبائر الذين لم يتوبوا منها، والأحاديث قد تواترت بأن بعض
أهل الكبائر يدخلون النار جزاء على ما اقترفوه، ثم يخرجون منها بعد ذلك (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
البقرة 83 إعراض اليهود
عن الوفاء بالمواثيق: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ) أي عهدهم الموثَّق
بالآيات المُنْزلة أو بالأَيْمان (لاَ
تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ) بيان للميثاق، أو التقدير: قائلين لهم ذلك، والخبر بمعنى النهي، وهو أبلغ
منه (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) أي وتحسنون بالوالدين إحسانا (وَذِي الْقُرْبَى) أي الأقربين من جهة الدم (وَالْيَتَامَى) جمع يتيم، وهو من مات أبوه من
الآدميين، قيل: وأمه أيضا، (وَالْمَسَاكِينِ) جمع مسكين، كأن الحاجة أسكنته (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ) قولاً (حُسْناً) أي ذا حُسن، أي خاطبوهم بالكلام الجميل الطيب، ويدخل فيه إرشادهم إلى
الخير ونَهيهم عن الشر بالكلمة الطيبة (وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ) أي المكتوبة في
شريعتهم (وَآتُواْ الزَّكَاةَ) أي الصدقة المفروضة عليهم أيضا (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الميثاق (إِلاَّ
قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ) أي وأنتم عادتكم ودأبُكم الإعراض، وهي حال مؤكدة للجملة قبلها.
البقرة 84
إعراض اليهود عن الوفاء بالمواثيق: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) أي عهدكم الموثق بالآيات أو
الأيمان (لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ) لا يقتل بعضكم بعضا (وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) أي لا يخرج بعضكم بعضا (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أي بالميثاق واعترفتم بلزومه (وَأَنتُمْ
تَشْهَدُونَ) أي وأنتم أيها
الموجودون الآن تشهدون على إقرار أسلافكم بذلك (ثُمَّ
أَنتُمْ) مبتدأ خبره (هَؤُلاء) أي الناقضون، كما تقول: أنت هذا تفعل كذا، ويجوز أن يكون هؤلاء منادى،
وجملة (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) خبر، أي يقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ) (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم) تتعاونون على إخراجهم (بِالإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ) كانت بنو النضير من
اليهود وهم حلفاء الخزرج، أعداء بني قريظة من اليهود وهم حلفاء الأوس، فكانوا
يتقاتلون فيقع منهم ما ذكره الله تعالى.
(وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) تحررونَهم من الأسر بإعطاء
الفداء (وَهُوَ) ضمير الشأن (مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) فتفدون الأسرى (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) حيث تستحلون قتل إخوانكم وإخراجهم من الديار (فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ) أي الكفر ببعض الآيات والإيمان
ببعض والقتل والإخراج بغير حق (إِلاَّ
خِزْيٌ) ذل وهوان (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الْعَذَابِ) وهو الخلود في النار
(وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي أنه لكم بالمرصاد، وقرأ نافع:
"يعملون" (أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ) أي آثروا (الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) واستبدلوها (بِالآَخِرَةِ) (فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) أي لا يجدون من ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
البقرة 87
تكذيب اليهود للرسل وقتلهم: (وَلَقَدْ آتَيْنَا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتَابَ) أي التوراة (وَقَفَّيْنَا
مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي أتبعناه بِهم وأرسلناهم من بعده، ومنهم: داود وسليمان وعُزَيْر وإلياس
واليَسَع ويونس وزكرياء ويحيى وغيرهم (وَآتَيْنَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) أي الآيات والحجج البينة الدالة على صدقه (وَأَيَّدْنَاهُ) أي قويناه (بِرُوحِ
الْقُدُسِ) وهو جبريل عليه
السلام، ومنه "قل نزله روح القدس من ربك بالحق" وكان تأييده بجبريل منذ
صباه، حيث كلم الناس في المهد (أَفَكُلَّمَا
جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) أي عن الإيمان بما جاؤوا به (فَفَرِيقاً) منهم (كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً) أي آخر (تَقْتُلُونَ) أي قتلتموهم، وعبر بالمضارع لاستحضار تلك الصورة البشعة واستعظامها وبيان
فظاعتها.
البقرة 88 طبع
الله على قلوب اليهود والكفرة بسبب طغيانِهم: (وَقَالُواْ) أي اليهود الموجودون في زمان
النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم (قُلُوبُنَا
غُلْفٌ) أي مغلفة مغشاة، لا
يصل إليها الإيمان (بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ) أي ليس كما قالوا بل قلوبهم
مخلوقة على الفطرة، لكن لعنهم الله وأبعد قلوبَهم عن الخير بإصرارهم على الكفر
والطغيان (فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) أي يؤمنون إيمانا قليلا، ويراد
بالقلة النفي المحض، فيكون المعنى عليه: لا يؤمنون البتة.
البقرة 89 استنصار
اليهود بالنبي الخاتِم قبل مبعثه: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ) أي عظيم (مِّنْ عِندِ اللّهِ) وهو القرآن (مُصَدِّقٌ
لِّمَا مَعَهُمْ) أي للتوراة (وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُواْ) أي يطلبون من الله
تعالى أن ينصرهم على المشركين، وذلك أنّهم كانوا إذا اشتدت الحرب بينهم وبين
المشركين، أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على مكان ذكر النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقالوا: اللهم إنا نسألك بحق
نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان، أن تنصرنا اليوم على عدونا، فينصرون (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ
بِهِ) أي جحدوه، وهذا أقبح الكفر، لأنّهم
كفروا بما يعرفون قطعا أنه الحق (فَلَعْنَةُ
اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) أي عليهم اللعنة والإبعاد من رحمة الله، ووضع الظاهر موضع المضمر للإشعار
بسبب حلول اللعنة وهو الكفر.
البقرة 90 كفر
اليهود بالنبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم حسدا له وللعرب: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ) أي باعوا (بِهِ أَنفُسَهُمْ) (أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ) أي أنّهم اختاروا الكفر على
الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه (بَغْياً) أي حسدا، والبغي الظلم، وقيل
أصله الطلب، والحاسد يطلب ما ليس له (أَن
يُنَزِّلَ) أي لأجل أن ينَزل (اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) أي من يختاره لرسالته وهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فَبَآؤُواْ) أي انقلبوا ورجعوا (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) قال ابن عباس: الغضب الأول لعبادة العجل، والثاني للكفر بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وَلِلْكَافِرِينَ) أي ولهم، والإظهار للإشارة إلى
سبب استحقاقهم العذاب (عَذَابٌ
مُّهِينٌ) أي مُخْزٍ مذل، وهذا
مجاز، وهو من الإسناد إلى السبب.
البقرة 91
كفر اليهود بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حسدا له: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا
أَنزَلَ اللّهُ) أي القرآن (قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا) أي التوراة فحسب (وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ) أي ما بعده وما سواه (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ) أي للتوراة (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)حيث قتلتم الأنبياء مع ادعائكم الإيمان بالتوراة، وهي لا تُسَوِّغه لكم،
فالحاصل أنّهم كفروا بالتوراة كما كفروا بالقرآن، ولو آمنوا بالتوراة لآمنوا
بالقرآن، لأن القرآن مصدق للتوراة، وإنما يتشبثون بالقديم زورا ليقفوا في وجه
الحق، وقد أخذ الله عليهم العهد في التوراة أن يؤمنوا بالقرآن، قال تعالى
"وإنه لتنْزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من
المنذرين، بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الأولين، أو لم يكن لهم آيةً أن يعلمه
علماء بني إسرائيل".
البقرة 92 تكذيب اليهود
في زعمهم الإيمان بالتوراة: (وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) بالآيات الدالة على صدقه
والمعجزات المؤيدة لنبوته كاليد والعصا (ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها (مِن بَعْدِهِ) أي مجيئه بالبينات، أو من بعد ما
رأيتم منه التوحيدَ ونبذَه للشرك (وَأَنتُمْ
ظَالِمُونَ) أي واضعون للأمر في
غير موضعه، لأنكم صرفتم العبادة لمن لا يستحقها (وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) أي عهدكم الموثق بالآيات أو الأيْمَان (وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ) بعدما رفضتم
الانقياد لشرائع التوراة، وقلنا لكم: (خُذُواْ
مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) أي بجد (وَاسْمَعُواْ) سماع تقبل وطاعة (قَالُواْ سَمِعْنَا) قولك (وَعَصَيْنَا) أمرك (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي خالط قلوبَهم حبُّ العجل (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم (قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ) أي بالتوراة كما تزعمون، من عبادة العجل وما تأتونه من الرذائل (إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ).
البقرة 94 حرص اليهود
الشديد على جمع الدنيا: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الآَخِرَةُ) أي نعيمها، لأنّهم
زعموا أن الجنة لهم دون غيرهم (عِندَ
اللّهِ) أي في حكمه (خَالِصَةً) مخصوصة بكم (مِّن
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم، فإن من أيقن أنه صائر
إلى الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار (وَلَن
يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) أي ما عاشوا (بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما عملوه من المعاصي الموجبة للنار (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) عليم بِهم فيجازيهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) التنوين لإفادة نوع من الحياة،
وهي الحياة المتطاولة (وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُواْ) أي أحرص من المشركين، (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ) يعيش (أَلْفَ سَنَةٍ) (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ) أي تعميره لن يدفع عنه العذاب (وَاللّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي عليم بِهم فهو مجازيهم.
البقرة 97 جبريل عدو
اليهود من الملائكة : (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ) هو الملك الذي ينْزل بالوحي على
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو عدو لليهود، لأنه بزعمهم ملك
موكل بالخسف والدمار، وأنه لو كان ميكائيل الموكل بالقطر والنبات لاتبعوه (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ) أي بأمره وبعلمه، وكأن المعنى:
من كان عدوا لجبريل فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن (مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب السماوية (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) خصهما بالذكر تشريفا وتفضيلا، وفي قراءة نافع: "ميكائل" (فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) أي فهو كافر، فليأذن بحرب من
الله (وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ) أي واضحات دالات على
صدقك (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ) أي المتمردون في الكفر
المتجاوزون للحدود.
البقرة 100 إخفاء
اليهود لصفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً) الواو عاطفة وتقدير الكلام:
أكفروا وكلما عاهدوا عهدا (نَّبَذَهُ
فَرِيقٌ مِّنْهُم) أي نقضوه وتركوا
العمل به، وأصل النبذ طرح ما لا يُعتَدُّ به (بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) فيه رد لتوهم أن من لم ينبذ منهم جهارا مؤمن (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ) يعني محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم (مُصَدِّقٌ
لِّمَا مَعَهُمْ) أي مصدق لما في
التوراة من التوحيد وأصول الدين، (نَبَذَ
فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ) أي فريق منهم، وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتعريفهم بما في الصلة إيذانا
بقبح صنيعهم، إذ كونُهم أوتوا الكتاب يقتضي تعظيمه والعمل بما فيه، لا نبذه وراء
الظهور (كِتَابَ اللّهِ) أي التوراة التي ذكر فيها نعت
النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم (وَرَاء
ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) أي ما فيه من ذكره صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
البقرة 102 نبذ اليهود
التوراة واتباعهم السحر الذي كانت تعلمه الشياطين للناس: (وَاتَّبَعُواْ) معطوف على نبذوا كتاب الله (مَا تَتْلُواْ) أي ما تقرأ أو ما تتبع (الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أي من السحر في عَهْدِ سليمان النبي (وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ) كما زعمت يهود، حيث
قالوا: إن سليمان لم يكن نبيا وإنما كان ساحرا (وَلَكِنَّ
الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) السحر يشبه الخارق، يتوصل إليه
بالتقرب إلى الشيطان بفعل القبائح، وقد يبلغ به أن يطير في الهواء أو يمشي في
الماء؛ روي أن الشياطين كانوا يعلمون الناس السحر بما يسترقون السمع من السماء،
فأشربته قلوب الناس واتخذوه دواوين، فأطلع الله على ذلك نبيه سليمان، فأخذها
وقذفها تحت الكرسي، فلما مات قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنْز سليمان؟
فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسخته الأمم.
البقرة 102
نبذ اليهود التوراة، واتباعهم السحرَ الذي أنزل ببابل، على الملَكين: هاروت
وماروت: (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) أي واتبعوا السحر الذي أُنزل على
الملَكين (بِبَابِلَ) بالعراق (هَارُوتَ وَمَارُوتَ) أنزل هذان الملكان بإذن الله
وأمره ليعلموا الناس السحر ابتلاء واختبارا، فلذلك قال: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ
إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي ابتلاء من الله (فَلاَ
تَكْفُرْ) أي بتعلم السحر أو
العمل به، والظاهر أنه لا يكفر بتعلم السحر ما لم يعمل به، ولكنه علم غير نافع
فالإثم حاصل بتعلمه، إلا إذا كان تعلمه بقصد تبيين فساده للناس (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) لا يصيبه إلا ما كتب الله له من ذلك (وَيَتَعَلَّمُونَ
مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ) فالضرر حاصل بتعلمه، إلا من تعلمه لِمقصد صحيح.
(وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ) أي استبدل السحرَ وكل باطل بالحق
(مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) أي نصيب (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ) أي بئس الشيء الذي باعوا (بِهِ
أَنفُسَهُمْ) فهم قد بذلوها
بالسحر الذي ينالون به حظوظ الدنيا، ولكنه سيؤدي بِهم إلى نار الآخرة (لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) خسرانَهم لكفوا وامتنعوا، ولكنهم
آثروا الفانية على الباقية، فطُبع على قلوبِهم، (وَلَوْ
أَنَّهُمْ آمَنُواْ) أي بالرسول والقرآن (واتَّقَوْا) أي اجتنبوا المعاصي (لَمَثُوبَةٌ
مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ) ثواب الله خير لهم من حظوظ الدنيا (لَّوْ
كَانُواْ يَعْلَمُونَ) أي لآمنوا واتقوا.
قصة هاروت
وماروت: روى أحمد وابن حبان
بإسناد حسن من حديث ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَقُولُ: إِنَّ آدَمَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى
الأَرْضِ، قَالَتْ الْمَلائِكَةُ أَيْ رَبِّ (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا) الآية، قَالُوا رَبَّنَا نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: هَلُمُّوا مَلَكَيْنِ مِنْ الْمَلائِكَةِ
حَتَّى يُهْبَطَ بِهِمَا إِلَى الأَرْضِ، فَنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلانِ، قَالُوا
رَبَّنَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، فَأُهْبِطَا إِلَى الأَرْضِ وَمُثِّلَتْ
لَهُمَا الزُّهَرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ، فَجَاءَتْهُمَا فَسَأَلاهَا
نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تَكَلَّمَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ
الإِشْرَاكِ، فَقَالا: وَاللَّهِ لا نُشْرِكُ بِاللَّهِ أَبَدًا، فَذَهَبَتْ
عَنْهُمَا، ثُمَّ رَجَعَتْ بِصَبِيٍّ تَحْمِلُهُ فَسَأَلاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ
لا وَاللَّهِ حَتَّى تَقْتُلا هَذَا الصَّبِيَّ؛ فَقَالا: وَاللَّهِ لا نَقْتُلُهُ
أَبَدًا؛ فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ بِقَدَحِ خَمْرٍ، تَحْمِلُهُ فَسَأَلاهَا
نَفْسَهَا، قَالَتْ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ، فَشَرِبَا
فَسَكِرَا فَوَقَعَا عَلَيْهَا، وَقَتَلا الصَّبِيَّ. فَلَمَّا أَفَاقَا قَالَتْ
الْمَرْأَةُ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُمَا شَيْئًا مِمَّا أَبَيْتُمَاهُ عَلَيَّ إِلا
قَدْ فَعَلْتُمَا حِينَ سَكِرْتُمَا، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،
فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا. والله سبحانه أعلم.
البقرة 104 تجنب
الألفاظ التي تثير الشبهة في الخطاب واختيار غيرها: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا) من المراعاة، وأصلها الرعاية
والرعي، أي حفظ مصالح الغير، فنهاهم الله تعالى عن اللفظ فقط (وَقُولُواْ انظُرْنَا) أي انظر إلينا بعين رعايتك، وذلك أن هذه الكلمة عند اليهود فيها سب قبيح
بلسانِهم، فهم يعنون بِها الرُّعونة والجهل والحُمق، فلما سمعوها من الصحابة،
صاروا يجهرون بِها ليَسُبوا بِها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأرشد الله تعالى المؤمنين إلى تحاشي هذا اللفظ واستعمال لفظ لا يثير شبهة
(وَاسْمَعُوا) أي واعقلوا ما يتلى عليكم (وَلِلكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ) (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن
رَّبِّكُمْ) فهم يحسدونكم فلن
يتوانوا عن أَذِيَّتكم (وَاللّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) (وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فلا ينبغي أن يُحسد الفقير على
ما تفضل الله به عليه، بل ينبغي أن يُسأل صاحب الفضل العظيم والخزائن التي لا
تنفَد.
تفسير 64
البقرة 106 النسخ في القرآن: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ) النسخ انتهاء التعبد بقراءة آية،
أو الحكم المستفاد منها (أَوْ
نُنسِهَا) أي من قلبك، بأن لا
تبقى في حفظك (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا) للعباد في النفع والثواب (أَوْ مِثْلِهَا) في الثواب (أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملة ذلك الإتيان بما هو خير
من المنسوخ أو مثله (أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فهو يتصرف في ملكه كيف يشاء (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ
نَصِيرٍ) الولي المالك، أي من
يتولاكم، والنصير المعين، والفرق بينهما أن المالك قد لا يكون قادرا على النصرة،
والنصير قد لا يملك شيئا، فمن علم أن الله وليه ونصيره، يعلم قطعا أن لا يفعل به
إلا الخير، فلا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا
سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ) أي أن تجادلوه بغير علم كما جادلتم موسى من قبل (وَمَن
يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) أي خرج عن الصراط السوي.
البقرة 109 حرص اليهود
على إضلال المؤمنين: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً) أي أحبوا ذلك وتمنوه (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) أي حاسدين (مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) بِما قرؤوه من النعوت في
التوراة، وبما أيد الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من البينات (فَاعْفُواْ
وَاصْفَحُواْ) العفو ترك العقوبة،
والصفح ترك التأنيب، وأصله من تولية صفحة الوجه إعراضا (حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ) وهو الأمر بالقتال عندما يحين
أوانه حسب ما تقتضيه حكمته سبحانه، ومنه قوله تعالى "قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر" إلى قوله "من الذين أوتوا الكتاب" (إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فاصفحوا فإن الله ناصركم
ومنتقم من الكافرين.
البقرة 110 الحث
على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وترك مقاتلة الكفار عند الضعف: (وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ) أي أدوها بآدابِها
وشروطها (وَآتُواْ الزَّكَاةَ) أي أعطوها المساكين وغيرَهم، وهذا
الأمر معطوف على قوله تعالى: "فاعفوا واصفحوا"، أي استعينوا بِهاتين
العبادتين، لدفع كيد الكافرين عنكم، حتى تؤمروا بأمر من الله بقتالهم، وهذا دليل
من بين أدلة أخرى، على أن المؤمنين يُطلب منهم مداراة الكافرين عند الضعف،
والاشتغالُ بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما من الأعمال الصالحة (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ
عِندَ اللّهِ) أي تجدوا ثوابَه مدخرا
لكم عنده (إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم بكل ما تعملون، فيثيبكم
عليه.
البقرة 111 ادعاء
اليهود أن الجنة خاصة بِهم: (وَقَالُواْ) معطوف على "ودَّ"، (لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ
نَصَارَى) أي قالت اليهود: لن
يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا النصارى (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) جمع أمنية، وهي ما يُتمنى، أي تلك واحدة من أمانيهم الباطلة المزعومة،
يضللون بِها أتباعهم، ويُروون بِها غليل غيظهم (قُلْ
هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ) اي دليلكم وحجتكم على صحة دعواكم (إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ) (بَلَى) أي سيدخلها كل مؤمن (مَنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ) أي نفسه، والمعنى انقاد لربه بالطاعات وترك المعاصي، والتعبير بالوجه
لأنه أشرف الأعضاء ومعدن الحواس (وَهُوَ
مُحْسِنٌ) أي في جميع أعماله (فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
البقرة 113 تضليل
اليهود للنصارى والنصارى لليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ) على شيء يُعتدُّ به في الدين (وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) روي أن يهود المدينة ووفد نصارى نجران، تماروا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتسابوا، وأنكرت اليهود الإنجيل
ونبوة عيسى، وأنكرت النصارى التوراة ونبوة موسى (وَهُمْ
يَتْلُونَ الْكِتَابَ) أي وهم يعلمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يزعمون (كَذَلِكَ) أي الأمر كذلك، (قَالَ
الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) أي مشركو العرب، أي كما قالوا ما قالوا قاله أمثالهم من الجاهلين (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) قالوا: محمد وأصحابه ليسوا على شيء (فَاللّهُ
يَحْكُمُ) أي يفصل ويقضي (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ).
البقرة 114 وعيد من يخرب
المساجد: (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحدَ أظلم (مِمَّن
مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) "أن يذكر" بدل اشتمال
من مساجد (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) أي هدمها أو تعطيلها (أُوْلَئِكَ) أي الظالمون المانعون من عمارتِها الساعون في خرابِها (مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ) أي من الله، واستدل أبو حنيفة
بالآية على جواز دخول الكافر المسجد إذا دخل بخشية وخشوع، ومنع من ذلك مالك،
لقوله: "إنما المشركون نجس"، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره، وهو
الأظهر، والله أعلم (لهُمْ
فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) أي ذل وهوان، بقتل رؤوسهم، وكسر أصنامهم وتسفيه أحلامهم (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهو عذا النار .
البقرة 115 بيان
أن الأرض كلها مسجد للمؤمنين: (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ) ناحية شروق الشمس (وَالْمَغْرِبُ) أي ناحية غروبِها، وكنى بِهما عن مالكية كل شيء (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ) أي ففي أي مكان وليتم وجوهكم جهةَ القبلة (فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) أي فهناك جهته التي أمرتم بِها، فلا يختص ذلك بمسجد دون مسجد أو بمكان
دون آخر، وفي الحديث الصحيح: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي
أدركته الصلاة فليصل"، أو فأينما تولوا فالله سبحانه معكم عليم بكم مطلع
عليكم، (إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ) محيط بالعباد ملكا ورحمة (عَلِيمٌ) بمصالح عباده وأعمالهم، لا تخفى عليه خافية.
البقرة 116 زعم
اليهود والنصارى والكافرين أن الله اتخذ ولدا: (وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا) قالت اليهود عزير ابن الله،
وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، تزوج الله بناتِ
سَرَوَاتِ الجن وولد الملائكة، "وجعلوا بينه وبين الْجِنَّةِ نسبا" (سُبْحَانَهُ) تنْزيه وتبْرئة له عما قالوا (بَل
لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي أنه غني بملكه لا يحتاج إلى شيء، ولا إلى صاحبة أو ولد (كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) أي كل ما فيهما منقاد له سبحانه (بَدِيعُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي مبدعهما، والإبداع اختراع الشيء لا عن مادة، أو على غير مثال (وَإِذَا قَضَى أَمْراً) أي أراد إتمامه وإنفاذه (فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) أي فإن ذلك الأمر يحصل لا محالة بلا مهلة.
البقرة 118
الإنكار على من يطلب الآيات: (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) أي جهلة المشركين (لَوْلاَ) أي هلاَّ (يُكَلِّمُنَا اللّهُ) بأنك رسوله كما يكلم الملائكة (أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ) دالة على صدقك، وهذا عناداً منهم وجحودا، لما آتاهم الله من الآيات
البينات والحجج الباهرات. ويجوز أن يراد: آية مقترحة منهم، قال تعالى: "وما
منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بِها الأولون" أي فأهلكناهم بتكذيبهم (كَذَلِكَ) أي الأمر (قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ
قَوْلِهِمْ) كقول اليهود:
"أرنا الله جهرة" (تَشَابَهَتْ
قُلُوبُهُمْ) أي قلوب السابقين
واللاحقين في العمى والعناد (قَدْ
بَيَّنَّا الآيَاتِ) أي أنزلناها بينة
واضحة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا تعتريهم الشبه ولا يصدهم
العناد.
البقرة 119 لا
إكراه في الدين : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) أي مؤَيَّدا أو متلبِّسا (بِالْحَقِّ) أي حال كونك (بَشِيرًا) للطائعين (وَنَذِيرًا) للعاصين، ولا يمكنك أن تُجبر
أحدا أو تُكرهه على الإيمان، (وَلاَ
تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) لست مسؤولا عنهم، لأنك قد بلغت، وما عليك إلا البلاغ، وقرأ نافع:
"ولا تَسْأَلْ"، أي بلِّغْهم الحق وأقم عليهم الحجة، ولا تسأل عن عاقبة
أمرهم، وفيها إيذان بفظاعة ما يستحقونه وما يحِل بِهم من الخزي والعذاب، أي اترك
السؤال عنهم، فإن ما سيحل بِهم في غاية الفظاعة، والجحيم: كل نار في مهواة شديدة
التأجج والاضطرام، أي نار جهنم.
البقرة 120 التحذير من
كيد اليهود والنصارى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) فيه تيئيس للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إيمانٍهم، لما كان منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحرص الشديد على إسلامهم (قُلْ
إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى) أي دين الله تعالى هو الحق، لا باطلكم الذي تفترونه على الله، وهذا رد
على زعمهم أنّهم على الحق وغيرهم على باطل (وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم) أي ولئن اتبعتَ ملتهم، وعبر عنها بالأهواء إيذانا بأنّهم غيروا وحرفوا
وبدلوا واتبعوا أهواءهم (بَعْدَ
الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي الوحي (مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ
نَصِيرٍ) أي من يتولاك أو
ينصرك من عقابه.
البقرة 121 الحث
على تدبر كلام الله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) أي من اليهود والنصارى (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) يقرؤونه حق قراءته، وهي قراءة
يتواطأ فيها القلب مع اللسان، ويتدبر المعنى، ويعقِل عن الله ما يأمر وما ينهى،
وهذه الجملة جاءت اعتراضا لبيان حال طائفة قليلة من مؤمني أهل الكتاب، بعد ذكر
أحوال الكفرة (أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بكتابِهم، ويجوز حمل الذين
أوتوا الكتاب على العموم، فيدخل فيه أتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتكون الآية حثا لهم جميعا على حسن تلاوة الكتاب، وإن كان السياق والظاهر
يقتضي أنّها في بني إسرائيل خاصة (وَمن
يَكْفُرْ بِهِ) بالتحريف والتكذيب (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) خسرت تجارتُهم لأنهم اشتروا
الكفر بالإيمان.
البقرة 122 تذكير
اليهود بنعم الله وبيوم القيامة: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي اذكروها بشكر المنعم بِها (وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) بأن جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا، قبل أن ينْزع منهم هذا الفضل ويصير
إلى خير أمة أخرجت للناس (وَاتَّقُواْ
يَوْماً) عظيما وهو يوم
الحساب والجزاء (لاَّ تَجْزِي) لا تُغني ولا تدفع (نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً) أي من الأهوال (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) أي فداء (وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ) أي إلا من بعد إذنه لمن يشاء
ويرضى (وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) لا ينقذون من العذاب.
البقرة 124 إبراهيم
الخليل إمام الأنبياء من بعده: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ) أي بأمور، والابتلاء
الاختبار، والمراد به التكليف، وإضافة الرب إلى ضميره تشريف له، وإيذان بأن ذلك
الابتلاء يرشحه لأمر عظيم (فَأَتَمَّهُنَّ) أي أداهن على الوجه الأتم (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) الإمام القدوة الذي يأتم الناس
به، والمراد بالإمامة هنا إمامة النبوة (قَالَ
وَمِن ذُرِّيَّتِي) الذرية نسل الرجل (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) عبر بالعهد عن الإمامة إشارة إلى
أنَّها أمانة لا يقوم بِها إلا من شاء الله تعالى من عباده، وفي هذه الآية قطع
لأطماع الكفرة الذين يتمنون النبوة، واستدل بِها الرافضة على نفي إمامة أبي بكر
وعمر وعثمان، لأنّهم عاشوا مدة مديدة على الشرك، وهو مردود عليهم بأن الإمامة
نالتهم وهم في قمة كمال إيمانِهم.
البقرة 125
فضل الكعبة وجعلها مثابة للناس: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أي الكعبة (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يثوبون إليه، فهو مجمع لهم ومعاذ وملجأ (وَأَمْناً) أي موضع أمن للناس والطير والوحش،
إلا الخمس الفواسق المأمور بقتلها (وَاتَّخِذُواْ
مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) أي موضع صلاة، المقام: هو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام،
وإسماعيل يناوله الحجارة في بناء البيت، وفيه أثر قدميه، أي وقلنا لهم ذلك، وفي
الصحيح أن عمر قال للنبي : لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنَزلت، وهي من موافقات عمر،
والأمر للاستحباب، وقرأ نافع: واتخَذوا، أي الناس، اتخذوا من مقام إبراهيم، وهو
مكانه الذي أسكن فيه ذريته، وهو الكعبة، قبلةً يصلون إليها.
البقرة 126 إبراهيم
الخليل وبناء الكعبة: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ) أي وصينا، أو أمرنا (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ) من كل ما لا يليق من الأوثان والأنجاس (لِلطَّائِفِينَ) الذين يطوفون حول الكعبة (وَالْعَاكِفِينَ) الجالسين من غير طواف (وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ) المصلين، أي لأجلهم،
وخُص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنّهما أفضل هيئاته في الصلاة،
وأقرب أحواله إليه تعالى (وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) أي آمنا أهلُه، أو ذا أمن (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) أي من أصنافها (مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) بدل بعض من أهله (قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) أي متاعا أو زمانا قليلا، أي
أرزقه أيضا (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) لاستحقاقه إياه (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس النار مصيرهم.
البقرة 127 دعوات
إبراهيم وإسماعيل عند بناء الكعبة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ) عبر بالمضارع استحضارا للصورة (الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) جمع قاعدة وهي الأساس، والمراد
رفع البناء عليها، أو المراد بالقواعد ساقات البناء، وكل ساقة قاعدة لما فوقها (وَإِسْمَاعِيلُ) ابن إبراهيم عليه السلام من هاجر (رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يقولان، والتقبل
مجاز عن الإثابة والرضا (إِنَّكَ
أَنتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بأحوالنا ونياتنا (رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي منقادين أو مخلصين لك (وَمِن
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً) أي جماعة (مُّسْلِمَةً لَّكَ) (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أي معالم الحج (وَتُبْ
عَلَيْنَآ) وفقنا للتوبة أو
تقبلها منا (إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الذي يقبل التوبة، ويقابل الذنوب
بالإحسان.
البقرة 129 محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعوة جده إبراهيم الخليل: (رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي أرسل فيهم (رَسُولاً مِّنْهُمْ) ليكون أشفق عليهم، والمراد ذرية إبراهيم وإسماعيل، ولم يبعث الله من ذرية
إسماعيل سوى محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من
ذرية إسحاق بن إبراهيم، وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة قال: قلت يا نبي
الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها
قصور الشام (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) أي آيات كتابك، وسميت آيات لأنّها
علامات دالة على التوحيد والنبوة (وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الحكمة وضع الأشياء في مواضعها، ومعناها هنا حقائق الكتاب ودقائقه
وأسراره، فلذا فسرت بالسنة لأنّها المبينة للكتاب (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشبهات، وقاذورات الشهوات (إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ) الغالب على أمره (الحَكِيمُ) المُحكِم لما يريد.
البقرة 130 فضل
ملة إبراهيم الخليل: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) استفهام بمعنى النفي، أي لا يرغب
عنها أحد (إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) جعلها مُهانة ذَليلة (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) اخترناه بالرسالة والإمامة (وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي من زمرتِهم وجماعتهم (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي اثبُتْ على إسلامك واستقم على
التوحيد، أو المراد بالإسلام الطاعة والانقياد لجزئيات الأحكام (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (وَوَصَّى بِهَا) أي بالملة (إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ) وقرأ نافع:
"وأوصى" (وَيَعْقُوبُ) أي أوصى أيضا بِها أبناءه قائلا
لهم (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الدِّينَ) أي شرع لكم الدين
الذي هو صفوة الأديان ووفقكم للأخذ به (فَلاَ
تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) أي اثبتوا على الإسلام حتى تموتوا وأنتم مسلمون.
البقرة 133 وصاة
يعقوب لأبنائه بالتوحيد: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) نزلت لأن اليهود
زعموا أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية، يعني ما كنتم حاضرين (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ) بدل من الأول (مَا
تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي) أي بعد موتي (قَالُواْ
نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) هو عم يعقوب، وإنما عده من آبائه
تغليبا للأكثر على الأقل (وَإِسْحَقَ) هو أبو يعقوب (إِلَهًا وَاحِدًا) منصوب على الحال أو المدح (وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ) مذعنون مقرون
بالعبودية، أو منقادون مستسلمون لأمره ونَهيه (تِلْكَ
أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) مضت (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) انتسابكم إليهم لا ينفعكم، وإنما
ينفعكم موافقتهم واتباعهم (وَلاَ
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) مقررة لما تقدم، وقيل: لا تؤاخذون بسيئاتِهم، واعترض بأنّهم منَزهون عن
كسب السيئات، والله أعلم.
البقرة 135 فضل
ملة إبراهيم الحنيف: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى) قالت اليهود كونوا هودا، وقالت
النصارى كونوا نصارى (تَهْتَدُواْ) للحق، أو إلى طريق الجنة، جواب
الأمر، أو على تقدير شرط محذوف: "إن تكونوا هودا تَهتدوا" وذلك أن يهود
المدينة ونصارى نجران خاصموا المسلمين، كل فرقة تزعم أنّها أحق بدين الله من غيرها
(قُلْ) خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، (بَلْ) نتبعُ (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) حال من إبراهيم، أي مستقيما، أو
مائلا عن الباطل إلى الحق (وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فيها رد على أهل الكتاب والمشركين الذين يدَّعون اتباع إبراهيم، مع ما هم
عليه من الشرك، وادعاء أن الله اتخذ الصاحبة والولد.
البقرة 136 الإيمان
بكل الرسل من غير تفريق: (قُولُواْ) خطاب للمؤمنين (آمَنَّا
بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا) أي القرآن (وَمَا
أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ) وهم أولاد يعقوب، وقد اختلف
الناس في نبوتِهم (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى) أي التوراة (وَعِيسَى) أي الإنجيل (وَمَا
أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ) تعميم بعد التخصيص (لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ) أي بين أحد وآخر، كما فرق أهل الكتاب فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، بل نؤمن
بِهم جميعا (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) خاضعون له بالطاعة مذعنون له
بالعبودية، أو منقادون لأمره ونِهيه.
البقرة 137 وعد
الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله
وسلم بكفاية شر اليهود: (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم
بِهِ) أي بالذي آمنتم به (فَقَدِ اهْتَدَواْ) أي إلى الطريق المستقيم، لأنه لا مثل لما آمنوا به فهو هو، فالمثل هنا
كالمثل في قوله تعالى "وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله" أي عليه (وَّإِن تَوَلَّوْاْ) أي أعرضوا (فَإِنَّمَا
هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي مخالفة أو
منازعة، وعبر بالجملة الاسمية لإفادة أنّهم مداومون على الشقاق ثابتون عليه (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ) أي سيكفيك شقاقهم وكيدهم، وفيه
تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم وتفريج للمؤمنين بوعد النصر
والغلبة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لدعائك (الْعَلِيمُ) بنيتك وإخلاصك في الدعوة إليه ونصرة دينه، أو السميع للكافرين العليم
بأحوالهم، يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون من المكايد.
البقرة 138 الإسلام
أفضل صبغة للمرء: (صِبْغَةَ اللّهِ) هي مصدر مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: صبغَنا الله صبغته، ويمكن أن تكون
بدلا من ملة إبراهيم، ويجوز أن تكون منصوبة على الإغراء، أي الزموا صبغته (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) تمييز منقول عن المبتدأ،
والتقدير: ومن صبغته أحسن من صبغة الله، أي لا أحد، وهذه استعارة تحقيقية تصريحية،
شبه ظهور علامات الإيمان وآثاره على المؤمنين، بظهور الصبغ على المصبوغ (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) أي خاضعون مستكينون، أو موحدون مطيعون، وهذه الآية رد على النصارى حيث
كانوا يصبغون أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية، ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان
لغيرهم، وإن كان مساق الكلام فيهم وفي اليهود، لكن لا يمتنع رد باطل كل فريق منهم،
كأنّهم مشتركون في ذلك الصنيع.
البقرة 139 رد
مزاعم اليهود والنصارى بشأن إبراهيم: (قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ) أي في دينه وتزعمون أن الحق ما
أنتم عليه (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) أي مالك أمرنا ومالك أمركم،
ففيها وعيد لهم على المجادلة بغير حق (وَلَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) فلا يحاسب أحد بعمل غيره (وَنَحْنُ
لَهُ مُخْلِصُونَ) أي في تلك الأعمال
وغيرها، فلا سبيل لكم إلى المحاجة، لأنكم تركتم دينه ولم تخلصوا له العبادة. (أَمْ
تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى) وقرأ نافع: "أم يقولون" (قُلْ
أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً
عِندَهُ مِنَ اللّهِ) والمراد شهادتُهم
بما ذكر من نعوت النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم في التوراة والإنجيل (وَمَا
اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يعني فلا تفلتون من عقابه. (تِلْكَ
أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) (وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق