البقرة 203 وعيد
من يسعى في الأرض فسادا: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ) أي يروقُك ويعظم في نفسك (قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي لفصاحته، (وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) أي أنه مصدِّق بالحق، وأن ما
يظهره بلسانه موافق لما في قلبه (وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ) أي أشد الخصوم
مخاصمة بالباطل، وفي الصحيحين من حديث عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَالَ: " إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ
الْخَصِمُ " (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) أي الزرع (وَالنَّسْلَ) أي ذوات الروح، سمي الولد نسلا
لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه (وَاللّهُ
لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)، روي أن الأخنس بن شريق الثقفي جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأظهر له الإسلام، وقال: جئت أريد الإسلام، والله يعلم إني لصادق، فأعجب
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله، فخرج من عنده، فمر بزرع
وحُمُر للمسلمين، فأحرق الزرع وعقر الحمُرَ، فنزلت الآية.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) أي الحمية والأنفة والغضب، أي احتوت عليه فصار كمن أُخذَ بِها، متلبسا (بِالإِثْمِ) أو بسبب الإثم، (فَحَسْبُهُ) أي كافيه (جَهَنَّمُ) علم لنار الآخرة (وَلَبِئْسَ
الْمِهَادُ) أي الفراش، أي بئس
ما يفرش له، ليطمئن ويستريح عليه (وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَشْرِي) أي يبيع (نَفْسَهُ) ببذلها في الطاعات والجهاد كما قال تعالى "إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم" (ابْتِغَاء
مَرْضَاتِ اللّهِ) أي طلبا لرضاه (وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) أي بعباده المؤمنين، حيث جعل لهم
النعيم الدائم جزاء على العمل الصالح. روي أن صهيبا الرومي أراد أن يهاجر إلى
المدينة، فمنعته قريش من أخذ ماله، وخيروه بين ماله ونفسه، فترك لهم المال وهاجر،
فنَزلت هذه الآية، وروي أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له قال: "ربح البيع صهيب".
البقرة 208 امتثال
أوامر الإسلام كافة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي
السِّلْمِ) أي في الإسلام (كَآفَّةً) ولا تتركوا شُعبةً من شُعَبِهِ ولا تُخِلُّوا بشيء من أحكامه؛ أو المعنى:
ادخلوا فيه بكليتكم، ولا تدعوا شيئا من ظاهركم أو باطنكم إلا منقادا لله عز وجل؛
وقرأ نافع: "السَّلم" بالفتح (وَلاَ
تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي بمخالفة أوامر الله (إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) ظاهر العداوة، (فَإِن
زَلَلْتُمْ) أي انحرفتم ومِلتم
عن الصواب (مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي الآيات البينات، والحجج
الواضحات الدالة على أن ما تُدْعَوْنَ إليه حق لا مرية فيه (فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ) قادر على معاقبتكم، لا تعجزونه،
لأنه (عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) أي محكم لأمره، لا يفعل غير ما
تقتضيه الحكمة، من المؤاخذة أو تركها.
البقرة 208 وعيد
من كفر النعمة بالسلب: (هَلْ يَنظُرُونَ) أي الكفار، والاستفهام بمعنى
النفي، أي ما ينتظرون (إِلاَّ
أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ) بالمعنى الذي يليق بجلاله وعظمته (فِي
ظُلَلٍ) جمع ظلة وهي ما يظلك
(مِّنَ الْغَمَامِ) أي السحاب (وَالْمَلآئِكَةُ) أي مع الملائكة، لفصل القضاء بين
الخلائق، يعني: ما ينتظر الكافرون والمعرضون إلا أن تقوم عليهم القيامة، حيث
يحاسبهم الله على ما قدموه (وَقُضِيَ
الأَمْرُ) أي أُتمَّ، بإثابة
الطائعين وعقاب العصاة (وَإِلَى
اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ) ومنها الحساب والجزاء (سَلْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي اليهود والنصارى (كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي واضحة، تدُلُّهُم على التوحيد
والنبوة، أي فلم يشكروا الله على ذلك، أي سلهم ماذا حل بِهم جزاء وفاقا على
كفرانِهم (وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ) أي بالكفر (مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ) يعاقبْهُ الله بسلب هذه النعمة (فَإِنَّ
اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقد سلب الله منهم كل فضل فضلهم به على العالمين، وصيره إلى خير أمة
أخرجت للناس، اللهم لك الحمد.
البقرة 212
باب في الرقائق وفضل الفقر: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا) أي حُسِّنت لهم
فأحبوها بقلوبِهم، فتنافسوها وتَهافتوا عليها، وأعرضوا عما يذكرهم بالآخرة، فصاروا
مطموسي البصائر (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ) أي ينظرون إلى من دونَهم من
المؤمنين ازدراءً واحتقارا، لأنّهم لا يعلمون إلا ظواهر الدنيا ومتاعها (وَالَّذِينَ اتَّقَواْ) أي الذين آمنوا، والتعبير عنهم بالذين اتقوا مدحا لهم بأشرف الأوصاف،
التي هي غاية الغايات (فَوْقَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي كائنون فوقهم،
فهم أرفع مكانا ومكانة، لأنّهم في أعلى عليين، وأولئك في أسفل سافلين، يطَّلعون عليهم فيضحكون منهم
قائلين: "هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) لأن خزائنه لا تنفَد، أي في
الدنيا، ففيها إشارة إلى ما سيفتحه الله على المؤمنين، ووعد لهم بأن يغنيهم الله
من فضله، أو في الآخرة، والمراد بمن يشاء عباده المؤمنون الذين يحبهم ويحبونه.
البقرة 213
إرسال الرسل عند ظهور الشرك في الأرض: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي على التوحيد، ما بين آدم ونوح
عليهما الصلاة والسلام، ثم ظهر الشرك في زمان نوح، أي فاختلفوا بعدما كانوا أمة
واحدة (فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ) وكان نوح أول رسول بعثه الله إلى
أهل الأرض (مُبَشِّرِينَ) أي المؤمنين بالثواب (وَمُنذِرِينَ) الكافرين من العذاب (وَأَنزَلَ
مَعَهُمُ الْكِتَابَ) أي جنس الكتاب،
متلبسا (بِالْحَقِّ) لأن كل نبي إما أنزل عليه كتاب
خاص، أو على نبي كان قبله، (لِيَحْكُمَ) أي ليفصِل (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) أي في الحق الذي اختلفوا فيه (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي في الحق المنَزّل (إِلاَّ
الَّذِينَ أُوتُوهُ) بتحريف الكتاب أو
تأويله (مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي الآيات الواضحة والبراهين
القاطعة الفاصلة بين الحق والباطل (بَغْيًا) أي ظلما وحسدا كائنا (بَيْنَهُمْ) أي من بعضهم على بعض (فَهَدَى
اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ) أي من كل الأمم (لِمَا
اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أي بتوفيق منه، (وَاللّهُ
يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
ويجوز أن يكون المراد من الذين آمنوا: أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمراد بالذين اختلفوا اليهود والنصارى، ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق في
تفسيره بإسناد صحيح على شرطهما من حديث أبي هريرة في قوله (فَهَدَى اللّهُ
الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ
يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا الجنة، بيد أنَّهم
أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق
بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغدا
لليهود وبعد غد للنصارى، والحديث أخرجه الشيخان من دون الزيادة التي في أوله، وثبت
في صحيح مسلم من حديث عائشة أن رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول في صلاة الليل: "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تَهدي
من تشاء إلى صراط مستقيم".
البقرة 214 ما
يصيب المؤمنين من شدة البلاء: (أَمْ حَسِبْتُمْ) أم منقطعة بمعنى بل، وتقدر
الهمزة بعدها، أي بل أحسبتم (أَن
تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ) (وَلَمَّا يَأْتِكُم) أي لم يأتكم بعدُ، ولما من
الحروف التي تجزم المضارع، والواو للحال (مَّثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم) أي مضوا من المؤمنين، أي مِثْلُ مَثلِهم، أي ما أصابَهم (مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء) أي الفقر (وَالضَّرَّاء) أي السُّقم في الأبدان (وَزُلْزِلُواْ) بأنواع البلايا والمحن، أو خُوفوا
من الأعداء (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى) أي يأتي (نَصْرُ اللّهِ) استطالوا المدة، ولم يشكوا ولم
يرتابوا (أَلا) أداة استفتاح للتنبيه (إِنَّ
نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) وقرأ نافع: "حتى يقولُ" بالرفع على أنّها حكاية حال ماضية، قال
ابن مالك: " وتلوَ حتى حالاً اوْ مؤوَّلا ــ بِهِ ارفعنَّ وانصبِِ المستقبلا
" ووجه ارتباط هذه الآية بالتي قبلها أن الهداية إلى الطريق المستقيم الذي هو
سبيل الجنة، تقتضي الابتلاء ليظهر الصادق من غيره.
البقرة 215 ما
جاء في الإنفاق: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ) أي من الأموال (قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) سألوا ماذا ينفقون فأجابَهم
ببيان من ينفَق عليهم لأنه أهم، وهذه الآية في الصدقات المتطوع بِها، وقيل في
الزكاة أيضا، وبِها استدل من أباح صرف الزكاة للوالدين، والتحقيق يقتضي أنَّها وإن
كانت نزلت في صدقة التطوع، فلا يمتنع تطبيقها على صدقة الفريضة، لأن النفقة أعم من
أن تكون واجبة أو مندوبة، فلا يمنع على الْمُعْسر إعطاء الزكاة لوالديه، بخلاف
الموسر، والله سبحانه أعلم (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ) أي تجدوا جزاءه عند الله سبحانه
(فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) لا يعزُب عن علمه شيء.
البقرة 216 فرض
الجهاد على الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله
(وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) أي مكروه، وذلك لما فيه من المشقة وتلف الأموال والأنفس (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا) أي فتتركوه لكراهة النفوس إياه (وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) أي ولكم فيه خير كثير، وكذلك النفوس جُبلت على كراهة الطاعات التي هي سبب
سعادتِها (وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا) أي فتأتوه لمحبتكم إياه (وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) وكذلك النفوس جُبلت على حب المعاصي والمشتهيات التي فيها هلاكها، وعسى
تأتِي للترجي، وهي هنا للإشفاق (وَاللّهُ
يَعْلَمُ) أي الذي فيه الخير
لكم والذي هو شر لكم (وَأَنتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ) ذلك.
البقرة 216 ما
جاء في الأشهر الحُرُم: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) اللام فيه للجنس أي الأشهر الحرم
(قِتَالٍ فِيهِ) بدل اشتمال، وذلك أن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم أرسل سرية لاستطلاع أخبار المشركين، ولم يأمرهم بقتال، فمر بِهم قوم من
المشركين، فقتلوا منهم وأسروا، وكان ذلك في آخر يوم من رجب (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي عظيم وزرُه (وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ) أي منع الناس من الدخول في دينه
وصرفهم عنه (وَكُفْرٌ بِهِ) أي جحد لنعمه وربوبيته لخلقه
وألوهيته (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي وصد الناس عن المسجد الحرام (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أي المؤمنين الذين أخرجوا من
ديارهم بغير حق (أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ) أي أعظم وزرا من القتال في الشهر
الحرام (وَالْفِتْنَةُ) أي فتنة المؤمن عن دينه، وصد
الناس عن السبيل (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي في الشهر الحرام وغيره.
البقرة 216 وعيد
المرتدين وتبشير المؤمنين المجاهدين: (وَلاَ يَزَالُونَ) أي الكفار (يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ) (إِنِ اسْتَطَاعُواْ) فيه استبعاد لما يرومونه، وتثبيتٌ للمؤمنين (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ) يعني ولم يتب بعد ارتداده حتى
مات (وَهُوَ كَافِرٌ) (فَأُوْلَئِكَ) أي المرتدون، والإشارة بالبعيد لبيان بعدهم من الله سبحانه (حَبِطَتْ) أي فسدت وضاعت (أَعْمَالُهُمْ
فِي الدُّنْيَا) حيث عرضوا أنفسهم
لسخط الله بارتدادهم (وَالآخِرَةِ) فلا ثواب لهم (وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) أي أهلها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها (إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ) أي فارقوا الأوطانَ والأهل والأحباب، من الهجر وهو ضد الوصل (وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَتَ اللّهِ) لأن العمل وحده لا
يستوجب الرحمة، فلذلك عبر بالرجاء (وَاللّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
البقرة 219
ما جاء في الخمر والميسر : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) سميت خمرا لأنها تخمِر العقل أي
تستره (وَالْمَيْسِرِ) أي القمار، يسَر الرجلُ ييسَر
يَسْرا: إذا لعب بالميسر، ويسرَ الرجلَ: قامره، (قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) فيترتب الإثم على تعاطيهما، أو لأن تعاطيهما يؤدي إلى فعل ما يوجب الإثم
من ترك الطاعات وفعل المعاصي، وعلى هذا فهما محرمان بِهذه الآية، ولكنها ليست
صريحة في التحريم، وآية المائدة نصت على أنَّهما رجس من عمل الشيطان. أو المعنى:
فيهما ضرر عظيم على العقل والبدن والمال والمجتمع، بقرينة مقابلة الإثم بالمنافع (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) أي قليلة كالمتعة وهضم الطعام وتصفية اللون، وتحصيل المال بسهولة ويسر (وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) ومن أعظم أضرارهما اختلال العقل،
مما يترتب عليه حصول الخبائث كلها، والسرقة، وإضاعة العيال، وأكل أموال الناس
بالباطل.
البقرة 219 خير
الصدقة ما كان عن ظهر غنى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ) أي ما يفضل عن
الحاجة، ولا يعسُر بذلُه، وأصل العفو: أنه نقيض الجَهد، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى، وابدأ بمن تعول"؛ وفي الآية
المتقدمة: قال: "قل ما أنفقتم من خير فللوالدين"، فأرشدهم فيها إلى من
ينفقون عليهم، وهنا أرشدهم إلى ما ينفقونه من الأموال، وعليه فمورد السؤالين
مختلف، ولعل أسبابَ النّزول تدل على ذلك (كَذَلِكَ) أي كما بين لكم هذه (يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ) أي آيات الكتاب، لأنّها علامات
تدل على الطريق الموصل إلى الله سبحانه (لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ) أي فتهتدوا إلى مصالحكم
ومنافعكم (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) وتجتنبوا كل ما يضركم فيهما.
البقرة 220 ما
جاء في اليتامى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) عن القيام بأمورهم والتصرف في
أموالهم، ففي سنن النسائي وأبي داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (ولا
تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) و (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما)،
اجتنب الناس مال اليتيم وطعامه، فشق ذلك على المسلمين، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأنزل الله الآية (قُلْ
إِصْلاَحٌ لَّهُمْ) أي إصلاح أموالهم بتنميتها، ومداخلتهم (خَيْرٌ) من اعتزالهم ومجانبتهم (وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ) أي في المأكل
والمشرب والمسكن (فَإِخْوَانُكُمْ) أي فهم إخوانكم في الدين (وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي من يخالطهم بنية الإصلاح أو
بنية الإفساد، فيجازي كلا بنيته (وَلَوْ
شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ) أي لأوقعكم في الحرج ولضيق عليكم، أي في هذا وغيره (إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ) أي غالب على أمره يفعل ما يشاء (حَكِيمٌ) ومن حكمته سبحانه رفع الحرج
والمشقة.
البقرة 221 تحريم
نكاح المشركات: (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (وَلأَمَةٌ) اللام لام القسم، والأمة هي المملوكة بملك اليمين، يقال للذكر: عبد،
وللأنثى: أمة (مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ) ونكاح الأمة بعد عتقها، قال رسول
الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا أدب الرجل أمته فأحسن
تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها، كان له أجران" (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي لنسبها أو جمالها أو مالها، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات
الدين تربت يداك". (وَلاَ
تُنكِحُواْ) أي لا تزوجوا (الْمُشِرِكِينَ) المؤمناتِ (حَتَّى
يُؤْمِنُواْ) (وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ) وقد أعتقت بريرة
وخيرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من زوجها، وكان عبدا، ووهم من
قال: كان حرا (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي أسباب دخولها (وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) ما يستوجبهما من الإيمان والعمل
الصالح (بِإِذْنِهِ) أي بتوفيقه (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) أي يتعظون بِها،
فيعملوا بموجِبها.
البقرة 222 ما
جاء في أحكام الحيض: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أي الحيض، وهو خروج الدم المعتاد
من المرأة البالغة على رأس كل شهر، وهو مصدر كالمجيء والمبيت، وقيل: اسم مكان أو
زمان بمعنى مكان خروج الحيض أو زمانه، والمراد السؤال عن أحكامه، (قُلْ هُوَ أَذًى) أي فيه أذى، أو هو موضع أذى، ودم الحيض مستقذر ونجس قليله وكثيره سواء،
يجب غسل اليسير منه من بدن المصلي وثوبه وموضع صلاته (فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء) أي لا تجامعوهن، وقد ثبت في
أحاديث صحيحة ومشهورة، أن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم كان يأمر نساءه أن يأتزرن، ثم يباشرهن فوق الإزار وهن حُيَّض (فِي الْمَحِيضِ) أي في زمانه، (وَلاَ
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ) أي بانقطاع الدم أو الاغتسال بعده، وهو الراجح، ويؤيده قراءة حمزة
والكسائي: "يطَّهَّرْن" (فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ) أي من المحل الذي أمرتم به،
ومنعتم عنه لعارض الأذى، وهذه صريحة في المنع من مجامعتهن قبل الاغتسال، وينوب عنه
التيمم بشروطه (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) فيه حث لهم على التوبة مما سلف
من بعضهم من الإتيان في زمن الحيض (وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ) أي المتنَزهين عن
الأقذار، ومن جملتها مجامعة النساء في المحيض. جاء في صحيح مسلم من حديث أنس: أن
اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوهن ولم يجامعوهن في البيوت، فسألوا
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأنزل الله تعالى (ويسألونك عن
المحيض قل هو أذى) الآية، فقال رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا:
ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أُسَيد بن حضير وعَبّاد
بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا
فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.
البقرة 223 ما
جاء في فضل النساء، حيث جعل الله أرحامهن موضعا لإنبات الذرية: (نِسَآؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ) أي مواضع حرث، أي
بمنْزلة مواضع الحرث، حيث شبهت النُّطف بالبذور (فَأْتُواْ
حَرْثَكُمْ) أي فأتوهنَّ، وهو
كناية عن الجماع (أَنَّى شِئْتُمْ) أي متى شئتم، أو كيف شئتم، وفي
الصحيحين من حديث جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دُبرها في
قبُلها، كان الولد أحول، فنَزلت الآية، (وَقَدِّمُواْ
لأَنفُسِكُمْ) أي من الأعمال
الصالحة ما يكون لكم ذُخرا يوم لا ينفع مال ولا بيعٌ ولا خُلة (وَاتَّقُواْ اللّهَ) أي عذابه وسخطه بطاعته وترك معصيته (وَاعْلَمُواْ
أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ) أي يوم القيامة فيحاسبكم ويجازيكم بما قدمتموه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) معطوف على "قل" في
الآية قبلها، أي بشرهم بالنعيم المقيم.
البقرة 224 لا
يجعل يمينه مانعة له من الخير: (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً
لِّأَيْمَانِكُمْ) أي فتبتذلوه بكثرة الحلف،
فإن في ذلك سوءَ أدب معه سبحانه (أَن
تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ) أي كراهة أن تفعلوا الخير، فإن
الإنسان يكره فعل الخير لعارض، فيحلف أن لا يفعله، لكنه يندم بعد ذلك، فيرغب في
فعل ما رغِب عنه أول الأمر. قيل: نزلت في عبد الله بن رَوَاحة، حين حلف على ختَنه
بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته. وقيل: نزلت
في أبي بكر لما حلف أن يقطع النفقة على قريبه مِسطح، لما وقع في إفك عائشة، وتحرير
المعنى: لا تجعلوا حلفكم سببا مانعا لكم من فعل الخير، وفي الصحيح: مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ (وَاللّهُ
سَمِيعٌ) أي لأقوالكم، ومن
جملتها الأيمان (عَلِيمٌ) بنياتكم، أي فلا تخالفوا أمره وتأدبوا معه بآدابه.
البقرة 225 ما
جاء في الأيمان: (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ
أَيْمَانِكُمْ) أصل اللغو الكلام،
لغا بالشيء: تكلم به، ومنه اللغو: ما لا يعتد به من الكلام أو الساقط منه، والمراد
ما سبق به اللسان من الأيمان من غير قصد الحلف، كقول الرجل لصاحبه في أثناء كلام:
صدقت والله، وقد يكون صاحبه كاذبا، فلا يحنث بنحو هذا، لأنه لم يقصد الحلف، وفي
صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنزلت هذه الآية في قول الرجل: لا والله
وبلى والله (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ) أي بما استقر في
القلب ووافق فيه القلب اللسان (وَاللّهُ
غَفُورٌ) يستر عليكم ما صدر
منكم من المخالفات والذنوب ويتجاوز عنها، (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة.
البقرة 226 ما
جاء في الطلاق: الإيلاء: (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِن نِّسَآئِهِمْ) الإيلاء هو الحلف، والمراد به هنا الحلف أن لا يمس امرأته بقصد الإضرار
بِها، وعُدي بـ"من" لتضمينه معنى الابتعاد (تَرَبُّصُ) أي انتظار (أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ)، أي أنه ينتظر أربعة
أشهر، وبعدها يقع الطلاق إن لم يفِئْ في المدة، أو بعدها (فَإِنْ فَآؤُوا) أي رجعوا في المدة أو بعدها (فَإِنَّ
اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي يتجاوز لهم عما صدر منهم من الظلم في حق نسائهم، وعليهم كفارة اليمين؛
وإذا كان إيلاؤه لشهر مثلا، فيجب عليه أن ينتظر شهرا فقط، ولا كفارة عليه، إلا إذا
فاء قبل مضي شهر كامل، تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين (وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ) أي عزموا عليه وصمموا قصدَه (فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بأحوالهم ونياتِهم، فيجازيهم على كل ذلك. وفيه دلالة على أن الطلاق لا
يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر، وهو قول الجمهور، قالوا: يوقف فيطالب إما بالفيء وإما
بالطلاق، وتكون طلقةً رَجعية. وقال الحنفية: إن لم يفئ في المدة بانت منه.
البقرة 228 ما
جاء في الطلاق الرَّجعي والعدة: (وَالْمُطَلَّقَاتُ) أي المدخول بِهن (يَتَرَبَّصْنَ) أي في الطلاق الرجعي (بِأَنفُسِهِنَّ
ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) يعني ينتظرن ولا
يتزوجن، لحق أزواجهن في الرجعة، وللتحقق من براءة الرحم من الحمل، وتبتدئ العدة من
أول طهر لم يمسها فيه، أخرج الشيخان من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض
فأمره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يراجعها، فإذا طهرت فأراد أن
يطلقها فليطلقها، ثم اختلفوا في انتهاء العدة، فذهب مالك والشافعي وداود وهو رواية
عن أحمد، إلى أن العدة تنتهي بانتهاء أطهارها بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة
بعد الطلاق، وفسروا الأقراء بالأطهار، واستدلوا عليه بقوله تعالى "فطلقوهن
لعدتِهن" أي في الأطهار، ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسَبا دل على أنه
أحد الأقراء الثلاثة المأمور بِها، والقول الثاني: أنّ عدتَها لا تنقضي حتى تطهر
من الحيضة الثالثة، زاد آخرون: وتغتسل منها، وفسروا الأقراء بالحيض وهذا مذهب أبي
حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل. (وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ
فِي أَرْحَامِهِنَّ) أي من الحمل أو
الحيض، وعلى هذا فيجب تصديقهن بما أخبرن به (إِن
كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (وَبُعُولَتُهُنَّ) جمع بعل كعمومة جمع عم، أي
أزواجهن (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في العدة، والمراد هو حق لهم،
على معنى: لا يجوز لأحد خِطبتهن في عدة الطلاق الرجعي (إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا) أي ولم يقصدوا الإضرار بِهن
بتطويل العدة، والمراد حث الأزواج على قصد الإصلاح (وَلَهُنَّ) أي على أزواجهن (مِثْلُ
الَّذِي) لأزواجهن (عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي ما عُرف حسنه في الشرع،
والمراد المماثلة في الوجوب لا فيما يجب، لاختلاف الأدوار (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي منْزلة، بما فضل الله بعضهم
على بعض من القوة في البدن وبما ينفقونه من أموالهم (وَاللّهُ عَزِيزٌ) غالب فينتقم ممن خالف أوامره، ففيها وعيد للرجال المتسلطين على النساء (حَكُيمٌ) فيما يشرعه لعباده.
البقرة 229 اختلاع
المرأة من زوجها: (الطَّلاَقُ) اسم والمصدر التطليق، أي الطلاق الذي يكون فيه للزوج حق الرَّجعة (مَرَّتَانِ) (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي بحسن المعاشرة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) أي تطليق يصاحبه الإحسان بأداء
الحقوق، وجبر القلوب، وبعد هذه الطلقة تبينُ المرأة من زوجها، ولا تحل له إلا بعد
أن يتزوجها غيرُه اختيارا، ثم يطلقها الغيرُ اختيارا، (وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ) أيها الأزواج (أَن
تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ) أي من الصداق وغيره (شَيْئًا) ولو كان حقيرا، والمعنى لا يحل
لكم أن تضيقوا عليهن ليفتدينَ منكم بما أعطيتموهن، وقد يكون الخطاب للحكام لكونِهم
الآمرين بالإيتاء، لا يحل لكم أيها الحكام أن تأخذوا منهن شيئا، فتردوه على
الأزواج (إِلاَّ أَن يَخَافَا) أي الزوجان أو يخاف أحدهما (أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ) أي حقوق الزوجية (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام (أَلاَّ
يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي من مالها لتختلِع من زوجها (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فيها وعيد شديد.
روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس
بن شَمَّاس إلى النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلُق، إلا أني أخاف
الكفر؛ فقال رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فردت عليه وأمره
ففارقها. وكان ثابت رجلا دميما، أي قبيحا، وكانت تكرهه لدمامته، فلذلك خشيت ألا
تقوم بحقوقه، وهو ما عبرت عنه بالكفر، وهو كفران العشير، وليس الكفر بمعنى الخروج
من الملة. ولا يجوز للزوج الإضرار بزوجته لتختلع منه، كما لا يجوز للمرأة أن تطلب
الطلاق من زوجها من غير ما بأس، ففي سنن الترمذي وأبي داود ومسند أحمد من حديث ثوبان
أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا
من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة. قال الترمذي: حديث حسن. وهو محمول على الزجر
والمبالغة في الوعيد، لما تقرر في الأصول أن من يحرم عليه الجنة هم الكافرون.
البقرة 230 ما
جاء في الطلاق الثلاث: (فَإِن طَلَّقَهَا) أي بعد التطلقتين (فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ) أي بعد التطلقة الثالثة (حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) أي حتى يتزوجها رجلٌ غيرُه،
ويمسَّها في ذلك الزواج، ولا تحل له بمجرد العقد، أخرج الشيخان من حديث عائشة أن
رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت، فطلقت، فسئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتحل للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عُسيلتها كما ذاق الأول؛ فإذا تزوجها من أن
أجل أن يُحلها له، فهو بمنْزلة من زنى بِها، ولا تحل للأول، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لعن الله المُحِلَّ والمحَلَّل له، وقال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟
قالوا بلى يا رسول الله، قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّلَ له، إذ
ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود رَدْعُ الأزواج عن التسرع إلى الطلاق، حتى لا
تكون النساء أُلعوبة في أيدي الرجال، يُطلِّقون متى شاءوا ويرتجعون مت شاءوا. (فَإِن طَلَّقَهَا) أي الزوج الثاني (فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا) أي بعد انتهاء عدتِها (إِن ظَنَّا
أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ) أي حقوق الزوجية (وَتِلْكَ
حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
البقرة 231 تحريم
مراجعة المرأة لتطويل العدة: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ) أي آخرَ عدتِهن (فَأَمْسِكُوهُنَّ) إن راجعتموهن (بِمَعْرُوفٍ) حسن المعاشرة (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ) أي خلُّوهن وأَطْلقوهن (بِمَعْرُوفٍ) والمعروف ما عُرف حسنه بالشرع أو
بالعقول السليمة من الأهواء (وَلاَ
تُمْسِكُوهُنَّ) أي لا تراجعوهن (ضِرَارًا) أي للإضرار بِهن، أو مُضارِّين بِهن (لَّتَعْتَدُواْ) أي لتظلموهن بتطويل العدة عليهن،
أو تضطروهن إلى الافتداء بأموالهن (وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ) أشار إليه بالبعيد
لبيان قبحه (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها لسخط الله (وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا) أي مهزوءا بِها (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ) أي بشكرها وعدم كفرانِها (وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةِ) فهم أسرار الكتاب، وقد فسرت بالسنة لأنّها المبينة للكتاب، (يَعِظُكُم بِهِ) أي بالمُنْزَل (وَاتَّقُواْ
اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيها وعيد شديد.
البقرة 232 نَهي
الأولياء عن عضل المرأة من زوجها الكُفْء: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ) أي انقضت عدتُهن،
خطاب للأزواج، أو لأولياء المرأة باعتبارهم المتسببين في الطلاق (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) أيها الأولياء، أي لا تمنعوهن (أَن
يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) أي المطلقين (إِذَا
تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ) أي إذا رغبت فيه ورغب فيها، فلا يجوز للولي حينئذ عضلها، روى البخاري من
حديث معقل بن يسار قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتُها جاء
يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرَشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا
تعود إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله
هذه الآية "فلا تعضلوهن" فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، فزوجها إياه (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي لقلوبكم (وَاللّهُ يَعْلَمُ) ما فيه النفع لكم (وَأَنتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ).
البقرة 233 ما
جاء في الرضاع والحضانة: (وَالْوَالِدَاتُ) أي الوالدات عامة، والمطلقات
منهن خاصة (يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ) خبر بمعنى الأمر (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) أي عامَين (لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) أي إرضاع حولين كاملين لمن أراد
إتمام الرضاعة وليس واجبا (وَعلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ) أي الوالد (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي بما جرت به عادة أمثالهن في
بلدهن، من غير إسراف ولا إقتار، أو حسب ما يراه الحاكم (لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا) كقوله تعالى "لينفق ذو سعة
من سعته" (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ) أي لا تضارَّ زوجها (بِوَلَدِهَا) أي بسببه، بأن تطلب ما ليس بعدل في الرزق والكسوة، أو تقول بعدما ألفها
الصبي: اطلب له ظِئرا (وَلاَ مَوْلُودٌ
لَّهُ) أي ولا يضارَّ والدٌ
امرأةً (بِوَلَدِهِ) أي بسببه، بأن ينتزع الولد منها
إضرارا بِها، وهي تريد إرضاعَه، أو يمنعها شيئا من رزقها وكسوتِها؛ ويجوز أن يكون
المعنى: لا تَضُر والدة ولدَها ولا والدٌ ولده، أي لا يلحقْ أحدهما به الضرر (وَعَلَى الْوَارِثِ) وارث الوالد، وقيل: وارث الصبي (مِثْلُ
ذَلِكَ) أي مثل ما على الوالد
من النفقة، إن لم يكن للوالد مال.
البقرة 233
ما جاء في الاسترضاع والفطام قبل الحولين: (فَإِنْ أَرَادَا) أي الوالدان (فِصَالاً) أي فطاما للولد قبل تمام الحولين، وتنكيره لإفادة أنه غير معتاد، وأن
الأفضل هو الإتمام (عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ) أي في مصلحة الولد (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أي فلا إثم، وقد فهم ارتفاع
الإثم من قوله لمن أراد أن يتم الرضاعة، وإنما أعاده هنا على سبيل التفصيل، (وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ) أي تطلبوا لهم المراضع (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي مع مراعاة عدم الإضرار بالولد
وعدم مضارة أمه إذا رغبت في إرضاعه (إِذَا
سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم) أي ما ضمنتم والتزمتم إيتاءَه المراضع (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما هو متعارف عليه واستحسنه
الشرع، وأما إذا وقعت المخالفة بين الوالدين في أجرة الرضاع، بأن طلبت كثيرا، أو بذل
قليلا، فللرجل الحق في استرضاع أخرى، قال تعالى: " وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى
"، ولو رضيت الأم بما استؤجرت به الأخرى كانت أحق بولدها (وَاتَّقُواْ اللّهَ) (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيها وعيد شديد
للمخالفين.
البقرة 234 عدة
المتوفى عنها زوجُها: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ) أي تُقبض أرواحهم، أي يموتون (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) أي يتركون نساءً لهم (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ) أي ينتظرن، أي النساء المتوفَّى
أزواجهن (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) أي وعشر ليال، أو عشرة أيام،
والتأنيث بحسب اللفظ فقط، فهذه هي عدة المتوفى عنها، وغير المدخول بِها أيضا عليها
العدة ولها الصداق والميراث؛ وأما الحامل فعدتُها وضع الحمل، ولو لم تستكمل أربعة
أشهر وعشرا، ويجوز لها أن تتجمل بعد الوضع للخطاب إذا طهُرت من نفاسها (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) انقضت عدتُهن (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأولياء (فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ) أي من التجمل (بِالْمَعْرُوفِ) أي معروف حسنُه بالشرع أو بالعقول السليمة ولم ينكره الشرع (وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وعيد للمخالفين.
البقرة 235 جواز
التعريض بخِطبة المرأة المتوفى عنها في عدتِها: (وَلاَ جُنَاحَ) أي لا إثم (عَلَيْكُمْ) والخطاب لمن يبتغي الزواج (فِيمَا
عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء) أي المتوفى أزواجهن من غير تصريح، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: يقول:
إني أريد التزويج، ولوددت أنه تيسرَ لي امرأةٌ صالحة. أو يقول: إن الله لسائق إليك
خيرا أو نحو هذا، ولا يواعد وليها بغير علمها؛ وأما المطلَّقة الرجعية أو البائنة
فلا يجوز التعريض بخطبتها في العدة، وقياسهما على معتدة الوفاة غير مستقيم لوجود
الفرق (أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ) أي فيما أضمرتموه في قلوبكم من
الرغبة في نكاحهن بعد انقضاء العدة (عَلِمَ
اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) ولا تصبرون على إخفاء الرغبة فيهن (وَلَكِن
لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي نكاحا، أو لا تواعدوهن نكاحا في السر (إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) أي إلا مواعدة بقول معروف، وهو
ما رخص لكم من التعريض فحسب.
البقرة 235 تحريم
عقد النكاح قبل انقضاء العدة: (وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ
النِّكَاحِ) أي لا تعقدوا
النكاح، ونَهى عن العزم مبالغة في الزجر (حَتَّىَ
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) حتى تنقضي العدةُ المكتوبة، أي المفروضة، وتبلغ أجلها. ومن تزوج امرأة في
عدتِها فدخل بِها فإنه يفرق بينهما، قال الجمهور: يجوز له أن يخطبها إذا انقضت عدتُها.
وذهب مالك إلى أنَّها تحرم عليه أبدا، واستدل لذلك بأثر رواه عن عمر بن الخطاب،
وهو منقطع، قالوا: ومأخذ هذا أن هذا الزوج لما استعجل ما أحل الله قبل أوانه، عوقب
بحرمانه، فحرُمت عليه على التأبيد، كالقاتل يُحرَم الميراث، والله أعلم (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ) أي من الهم والعزم على مخالفة
أوامره (فَاحْذَرُوهُ) أي احذروا عقابه باجتناب ما
يسخطه (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ) يستر الذنوب ويتجاوز عنها (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة، ففيها حث لهم على التوبة.
البقرة 236 الطلاق
قبل المسيس وقبل تسمية المَهر: (لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي لا إثمَ مترتِّبٌ ولا تبعةَ
من مَهر (إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنُّ) المس كناية عن الجماع
(أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي الصداق، ويجوز أن تكون أو
بمعنى "إلا أن": فيصير المعنى: إلا أن تفرضوا لهن صداقا فتكون عليكم
تَبِعتُه (وَمَتِّعُوهُنَّ) أي أعطوهن الْمُتعة، أي ما
يتمتعن به، حسب ما يطاق (عَلَى
الْمُوسِعِ) أي الغني (قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ) أي الفقير (قَدْرُهُ) (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ) أي تمتيعا من غير إسراف أو
تقتير، قال ابن عباس: أعلاها الخادم وأدناها الكسوة (حَقًّا) مصدر حُذف عامله وجوبا أي حُقَّ ذلك حقا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي إلى أنفسهم، أي بالمسارعة في الخيرات، أو إلى الناس بإسداء المعروف.
البقرة 237
الطلاق قبل المسيس وبعد تسمية المَهر: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
تَمَسُّوهُنَّ) (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي سميتم لهن صداقا (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي فلهن عليكم نصف الصداق المفروض (إَلاَّ
أَن يَعْفُونَ) أي إلا في حال عفوهن
(أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) أي الولي الذي بيده إنكاح
المرأة، وهذا هو الأنسب بمساق النظم الكريم، وقيل: هو الزوج، بأن يعفو هو ويدفع
لها الصداق كاملا، وقد جاء فيه حديث عن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم، إلا أنه يُعَكِّر عليه أنه غير مناسب لمساق النظم الكريم، لأن مساق النظم
على هذا المعنى: إلا أن يعفون أو تعفوا أنتم (وَأَن
تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ما يتفضل به بعضكم على بعض
بمقتضى أخوة الإيمان (إِنَّ
اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيثيبكم بكل عمل صالح ولا يضيع لكم أجرا.
البقرة 238 المحافظة
على الصلوات: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ) أي بأدائها في أوقاتِها
والمحافظة على آدابِها (والصَّلاَةِ
الْوُسْطَى) أي الفضلى منها أو
المتوسطة بينها، واختلف في تعيينها، فذهب الأكثر إلى أنّها صلاة العصر، ومنهم من
قال: صلاة الصبح، ومنهم من قال: صلاة الظهر، وليس هذا محل بسط القول في المسألة،
إذ المحافظة على كل الصلوات مطلوب شرعا، ولم يرد في الشرع ما يسوغ التهاون بصلاة
من الصلوات (وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) أي خاشعين ساكنين ذاكرين، أو
مطيعين، أخرج الشيخان من حديث زيد بن أرقم قال: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى
نزلت فأمرنا بالسكوت.
البقرة 239 الصلاة
عند الخوف: (فَإنْ خِفْتُمْ) أي من العدو أو غيره، والذي وردت به السنة صلاة الخوف عند القتال (فَرِجَالاً) أي ماشين (أَوْ رُكْبَانًا) أي راكبين، مستقبلي القبلة وغير
مستقبليها كما جاء في الحديث (فَإِذَا
أَمِنتُمْ) أي مما تخافون (فَاذْكُرُواْ اللّهَ) أي فصلوا صلاة الآمنين، وأدوا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها
وقيامها وقعودها، وعبر بالذكر لأنه هو المقصود الأكبر من أفعال الصلاة، كما كان
المقصودَ من مناسك الحج وغيره (كَمَا
عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) أي مثل ما أنعم عليكم وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة؛ وكلما ازداد
علم العبد بالقرآن والسنة كان مطلوبا منه أن يكون أكثر الناس ذكرا لربه بما أنعم
عليه من العلم، ليشكر النعمة، ولا يكون ما تعلَّمه حجة عليه.
البقرة 240
ما جاء في متعة المتوفى عنها: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا وَصِيَّةً) أي فليوصوا وصيةً، كذا قرأ عاصم وغيره، وقرأ نافع وآخرون بالرفع، أي
عليهم وصيةٌ (لِّأَزْوَاجِهِم) أي أن يمتَّعن (مَّتَاعًا) أي تمتيعا بالنفقة والسكنى (إِلَى
الْحَوْلِ) أي حولا كاملا (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) أي من غير إخراج، وهذا الحكم منسوخ بالأربعة أشهر وعشر في الآية
المتقدمة، وإن تأخرت هذه في التلاوة، ونُسخت الوصيةُ بالنفقة بالميراث، وبقي أن
تعتد أربعة أشهر وعشرا في بيت زوجها؛ وقد قيل لعثمان: قد نسختها الآية الأخرى فلم
تكتبها؟ قال: لا أغير شيئا منه من مكانه؛ (فَإِنْ
خَرَجْنَ) أي بعد انتهاء
الحول، أو في أثنائه إن اخترن الخروج (فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ) كالتجمل للخطاب (وَاللّهُ عَزِيزٌ) أي غالب (حَكِيمٌ) فيما يشرع، فلا تخالفوا شرعه. وقال مجاهد: إن ما ذكر هنا ليس على الوجوب،
وإنما هو من باب الوصاة بالزوجات، ولكن إذا اخترن الخروج فلا يمنعن منه، فذهب إلى
عدم النسخ، والله أعلم.
البقرة 241
ما جاء في متعة المطلقات: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ) أي كل مطلقة (مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي المؤمنين، والتعبير بالمتقين
لحثهم على الامتثال. ومنهم من خص المطلقات بغير المدخول بِهن، كما في الآية
الأخرى: "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة
ومتعوهن على الموسع قدره" الآية، وأُجيب بأن هذا من باب ذكر فرد من أفراد
العموم، فلا يستلزم التخصيص (كَذَلِكَ) أي مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) لأنّها علامات تدلكم على مصالحكم
عاجلا وآجلا، وعلى الطريق الموصل إلى الله سبحانه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تُعملوا فيها عقولكم، وتتفكروا فيها فتهتدوا إلى أنَّ فيها صلاحَ
أمركم في الدنيا والآخرة.
البقرة 243 لا
يغني حذر من قدر: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) عدي فعل الرؤية بإلى لأنه بمعنى
ألم تنظر، والمراد تعجيب المخاطب من حالهم (وَهُمْ
أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) أي فارين من أسباب الموت (فَقَالَ
لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ) أي أماتَهم، وكانوا أهل بلدة من بني إسرائيل، أصابَهم وباء شديد، فخرجوا
فرارا من الموت، فنَزلوا واديا أفيح فملؤُوا ما بين عُدوتيه، فأرسل الله إليهم
ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه، فصاحا بِهم صيحة واحدة فماتوا عن
آخرهم موتة رجل واحد، (ثُمَّ
أَحْيَاهُمْ) بدعوة نبي من
أنبيائهم يقال له حزقيل، وقيل غيره؛ وذلك بعد دهر طويل، حيث تمزقت عظامهم (إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ) أي عظيم (عَلَى النَّاسِ) أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة التي تدلهم عليه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) بعدم النظر في الآيات وعدم العمل
بِها.
البقرة 244 إنفاق
المال في الجهاد: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) أي لإعلاء كلمته (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ)
بأعمالكم وأحوالكم، فلا يضيع لكم كلاما طيبا ولا عملا
صالحا، يعلم من يرغب الناس في الأعمال الصالحة ومن جملتها الجهاد بالنفس والمال،
ويعلم من يثبطهم، فيجازي كلاًّ بقوله وعمله (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا
حَسَنًا) الإقراض مستعار
لتقديم العمل الصالح طلبا للثواب، والظاهر أن المراد إنفاق المال في الجهاد (فَيُضَاعِفَهُ) أي جزاء القرض، وقرأ نافع: "فيضاعفُه" (لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) والضعف هو مثل الشيء، أي أمثالا
كثيرة، لا يعلم عددها إلا الله (وَاللّهُ
يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) يضيق الرزق على بعض
ويوسعه على بعض حسب حكمته (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) أي فيجازيكم على ما
قدمتموه؛ وإليه يرجع كل شيء، ومن ذلك هذه الأموال التي رزقكم إياها فلا تبخلوا بِها
عليه.
ذم من تولى
عن القتال (قصة طالوت ونصره على جالوت وجنوده): (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ) الملأ: الوجوه والأشراف من القوم
(مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي اليهود (مِن
بَعْدِ مُوسَى) أي من بعد موته (إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ) قيل: هو شَمويل، وقيل: شمعون (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا) أي أقم لنا أميرا (نُّقَاتِلْ) مجزوم في جواب شرط مقدر بنحو:
"إن تبعثْه لنا نقاتلْ" (فِي
سَبِيلِ اللّهِ) وكان سبب طلبهم أنّهم
قدُ ابتُلوا بالأعداء فقتلوا منهم وأسروا وغلبوا على كثير من بلادهم، حتى بعث الله
إليهم هذا النبي ( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ) أي هل قاربتم وأوشكتم، وقرأ
نافع: "عسِيتُم" (إِن
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) شرط معترض بين اسم عسى وخبرها، أي هل عسيتم (أَلاَّ تُقَاتِلُواْ) (قَالُواْ وَمَا لَنَا) أي ليس لنا (أَلاَّ نُقَاتِلَ) أي عدم قتالنا، فكيف يتوقع منا، أو ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل (فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا
وَأَبْنَآئِنَا) أي ومن بين أبنائنا (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ) أعرضوا وتركوا القتال (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد شديد لهم.
الله يخلق ما
يشاء ويختار: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ
لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) أي أميرا في القتال (قَالُوَاْ
أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ) لأنه لم يكن من أبناء
الملوك (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) أي ليس واحدا من الأغنياء، وكان
فقيرا (قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) أي اختاره (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) وهبه العلم الكثير والقوة في
البدن، وقدم العلم لأنه أشرف، فهو بذلك يكون أعلم بالمصالح منكم، وأعلم بسياسة
الحروب، ويكون مَهيبا عند الأعداء وأقوى على مواجهتهم (وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء) أي فكفوا عن الاعتراض، لأن الأمر
لله يتصرف فيه كيف يشاء (وَاللّهُ
وَاسِعٌ) أي واسع الفضل (عَلِيمٌ) بعباده فهو يقسم بينهم فضله حسب علمه وحكمته، ويختص منهم من يشاء بما
يشاء.
البقرة 248 إرسال
الآيات لإقامة الحجة على المعاندين: (وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ
مُلْكِهِ) أي علامة اصطفاء
الله له بالملك، وروي أنَّهم سألوا نبيهم آية تدل على اصطفائه (أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) أي الصندوق، واللام فيه للعهد،
والمراد بِه صندوق التوراة، وكان قد رفعه الله إلى السماء سخطا على بني إسرائيل
لما تمادوا في الطغيان بعد موسى، وروي أيضا أنه استلبه منهم بعض الملوك في بعض
الحروب، وأخذ التوراة من أيديهم، ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل (فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ) أي تسكن قلوبكم وتطمئن لرؤية هذه
الآية، وقيل: كان شيئا في التابوت، يصرخ، فيستبشرون بالنصر، فيثبتون ولا يفرون (وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ
تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ) روي أنّها عصا موسى وغيرها (إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَةً) أي عظيمة (لَّكُمْ) تدلكم على الحق الذي أنتم مرتابون فيه (إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، لأن المؤمن لا
يعارض الحق إذا ظهر، أو إن كنتم تريدون الإيمان.
البقرة 249
نصرة الطيب بتمييز الخبيث منه: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ) أي انفصل عن بيت المقدس، والجنود
الأعوان والأنصار، روي أنّهم كانوا ثمانين ألفا، أي لما خرج بِهم (قَالَ) لهم (إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم) أي مختبركم وممتحن صدقكم وصبركم
(بِنَهَرٍ) أي من ماء (فَمَن
شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي من أنصاري، وهذا لتمييز الخبيث من الطيب، لأنّهم إذا لم يطيعوه هنا
فكيف يصبرون على مقارعة العدو في الميدان (وَمَن
لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) وقرأ نافع وآخرون
"غَرفة" (فَشَرِبُواْ مِنْهُ) أي أفرطوا في الشرب ولم يكتفوا
بالغرفة (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) في صحيح البخاري عن البراء بن
عازب: قال كنا أصحاب محمد صلى
الله عليه وعلى آله وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر بضعةَ عشرَ وثلاثَمائة على عدة أصحاب طالوت الذين
جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن، وقيل: بقي معه أربعة آلاف.
البقرة 249
النصر من الله وليس بالعدة والعدد: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ) أي النهر (هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ) فيه نفي الإيمان عن المتخلفين، (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) جالوت اسم قائد أعدائهم، قالوا
ذلك لما شاهدوا قلة عددهم وعُدَّتِهم، وشاهدوا من أعدائهم الكثرة في العدد
والعُدة، (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) الظن هنا بمعنى العلم، أي
يتيقنون (أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ) أي بالرجوع إليه يوم القيامة،
وهم الأكملون إيمانا منهم (كَم مِّن
فِئَةٍ) أي جماعة (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ) أي بأمره وعونه وتيسيره (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فيه تنبيه على أن الصبر هو مفتاح
النصر، ومنه الصبر على مقارعة الأعداء، قال النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر".
البقرة 250
الدعاء عند القتال: (وَلَمَّا بَرَزُواْ) أي ظهروا في الميدان (لِجَالُوتَ
وَجُنُودِهِ) أي لقتالهم (قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) أي على قلوبنا، استعارة
بالكناية، شبه الصبر بالماء البارد، وأشار إليه بشيء من لوازمه وهو الإفراغ (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) أي لكيلا نَفرَّ ولا نتزلزل عند اللقاء (وَانصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وهذه هي الغاية؛ (فَهَزَمُوهُم
بِإِذْنِ اللّهِ) أي فاستجاب الله
دعاءهم وغلبوا أعداءهم وكسروا شوكتهم (وَقَتَلَ
دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء) كصنعة الدروع، وكان ذلك بعد موت
طالوت (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) يدفعُ المفسدين
بالمصلحين والأشرارَ بالأخيار، وذلك الدفع بالكلمة أو بالسيف، أو بِهما معا، وقرأ
نافع "دِفاعُ" (لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ) أي بفساد أهلها،
فتضيعُ الحقوق وتتعطل المصالح (وَلَكِنَّ
اللّهَ ذُو فَضْلٍ) أي عظيم (عَلَى الْعَالَمِينَ) فليشكروه ولا يكفروه؛ (تِلْكَ
آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ) إشارة إلى قصة طالوت وجالوت، (بِالْحَقِّ) أي متلبسةً بالحق، مبينة له (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي واحد من الرسل الذين يوحى
إليهم لهداية الخلق، وإلا فأنَّى لك بمعرفة هذه الأخبار.
البقرة 203 وعيد
من يسعى في الأرض فسادا: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ) أي يروقُك ويعظم في نفسك (قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي لفصاحته، (وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) أي أنه مصدِّق بالحق، وأن ما
يظهره بلسانه موافق لما في قلبه (وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ) أي أشد الخصوم
مخاصمة بالباطل، وفي الصحيحين من حديث عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَالَ: " إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ
الْخَصِمُ " (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) أي الزرع (وَالنَّسْلَ) أي ذوات الروح، سمي الولد نسلا
لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه (وَاللّهُ
لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)، روي أن الأخنس بن شريق الثقفي جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأظهر له الإسلام، وقال: جئت أريد الإسلام، والله يعلم إني لصادق، فأعجب
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله، فخرج من عنده، فمر بزرع
وحُمُر للمسلمين، فأحرق الزرع وعقر الحمُرَ، فنزلت الآية.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) أي الحمية والأنفة والغضب، أي احتوت عليه فصار كمن أُخذَ بِها، متلبسا (بِالإِثْمِ) أو بسبب الإثم، (فَحَسْبُهُ) أي كافيه (جَهَنَّمُ) علم لنار الآخرة (وَلَبِئْسَ
الْمِهَادُ) أي الفراش، أي بئس
ما يفرش له، ليطمئن ويستريح عليه (وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَشْرِي) أي يبيع (نَفْسَهُ) ببذلها في الطاعات والجهاد كما قال تعالى "إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم" (ابْتِغَاء
مَرْضَاتِ اللّهِ) أي طلبا لرضاه (وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) أي بعباده المؤمنين، حيث جعل لهم
النعيم الدائم جزاء على العمل الصالح. روي أن صهيبا الرومي أراد أن يهاجر إلى
المدينة، فمنعته قريش من أخذ ماله، وخيروه بين ماله ونفسه، فترك لهم المال وهاجر،
فنَزلت هذه الآية، وروي أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له قال: "ربح البيع صهيب".
البقرة 208 امتثال
أوامر الإسلام كافة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي
السِّلْمِ) أي في الإسلام (كَآفَّةً) ولا تتركوا شُعبةً من شُعَبِهِ ولا تُخِلُّوا بشيء من أحكامه؛ أو المعنى:
ادخلوا فيه بكليتكم، ولا تدعوا شيئا من ظاهركم أو باطنكم إلا منقادا لله عز وجل؛
وقرأ نافع: "السَّلم" بالفتح (وَلاَ
تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي بمخالفة أوامر الله (إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) ظاهر العداوة، (فَإِن
زَلَلْتُمْ) أي انحرفتم ومِلتم
عن الصواب (مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي الآيات البينات، والحجج
الواضحات الدالة على أن ما تُدْعَوْنَ إليه حق لا مرية فيه (فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ) قادر على معاقبتكم، لا تعجزونه،
لأنه (عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) أي محكم لأمره، لا يفعل غير ما
تقتضيه الحكمة، من المؤاخذة أو تركها.
البقرة 208 وعيد
من كفر النعمة بالسلب: (هَلْ يَنظُرُونَ) أي الكفار، والاستفهام بمعنى
النفي، أي ما ينتظرون (إِلاَّ
أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ) بالمعنى الذي يليق بجلاله وعظمته (فِي
ظُلَلٍ) جمع ظلة وهي ما يظلك
(مِّنَ الْغَمَامِ) أي السحاب (وَالْمَلآئِكَةُ) أي مع الملائكة، لفصل القضاء بين
الخلائق، يعني: ما ينتظر الكافرون والمعرضون إلا أن تقوم عليهم القيامة، حيث
يحاسبهم الله على ما قدموه (وَقُضِيَ
الأَمْرُ) أي أُتمَّ، بإثابة
الطائعين وعقاب العصاة (وَإِلَى
اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ) ومنها الحساب والجزاء (سَلْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي اليهود والنصارى (كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي واضحة، تدُلُّهُم على التوحيد
والنبوة، أي فلم يشكروا الله على ذلك، أي سلهم ماذا حل بِهم جزاء وفاقا على
كفرانِهم (وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ) أي بالكفر (مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ) يعاقبْهُ الله بسلب هذه النعمة (فَإِنَّ
اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقد سلب الله منهم كل فضل فضلهم به على العالمين، وصيره إلى خير أمة
أخرجت للناس، اللهم لك الحمد.
البقرة 212
باب في الرقائق وفضل الفقر: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا) أي حُسِّنت لهم
فأحبوها بقلوبِهم، فتنافسوها وتَهافتوا عليها، وأعرضوا عما يذكرهم بالآخرة، فصاروا
مطموسي البصائر (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ) أي ينظرون إلى من دونَهم من
المؤمنين ازدراءً واحتقارا، لأنّهم لا يعلمون إلا ظواهر الدنيا ومتاعها (وَالَّذِينَ اتَّقَواْ) أي الذين آمنوا، والتعبير عنهم بالذين اتقوا مدحا لهم بأشرف الأوصاف،
التي هي غاية الغايات (فَوْقَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي كائنون فوقهم،
فهم أرفع مكانا ومكانة، لأنّهم في أعلى عليين، وأولئك في أسفل سافلين، يطَّلعون عليهم فيضحكون منهم
قائلين: "هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) لأن خزائنه لا تنفَد، أي في
الدنيا، ففيها إشارة إلى ما سيفتحه الله على المؤمنين، ووعد لهم بأن يغنيهم الله
من فضله، أو في الآخرة، والمراد بمن يشاء عباده المؤمنون الذين يحبهم ويحبونه.
البقرة 213
إرسال الرسل عند ظهور الشرك في الأرض: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي على التوحيد، ما بين آدم ونوح
عليهما الصلاة والسلام، ثم ظهر الشرك في زمان نوح، أي فاختلفوا بعدما كانوا أمة
واحدة (فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ) وكان نوح أول رسول بعثه الله إلى
أهل الأرض (مُبَشِّرِينَ) أي المؤمنين بالثواب (وَمُنذِرِينَ) الكافرين من العذاب (وَأَنزَلَ
مَعَهُمُ الْكِتَابَ) أي جنس الكتاب،
متلبسا (بِالْحَقِّ) لأن كل نبي إما أنزل عليه كتاب
خاص، أو على نبي كان قبله، (لِيَحْكُمَ) أي ليفصِل (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) أي في الحق الذي اختلفوا فيه (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي في الحق المنَزّل (إِلاَّ
الَّذِينَ أُوتُوهُ) بتحريف الكتاب أو
تأويله (مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي الآيات الواضحة والبراهين
القاطعة الفاصلة بين الحق والباطل (بَغْيًا) أي ظلما وحسدا كائنا (بَيْنَهُمْ) أي من بعضهم على بعض (فَهَدَى
اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ) أي من كل الأمم (لِمَا
اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أي بتوفيق منه، (وَاللّهُ
يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
ويجوز أن يكون المراد من الذين آمنوا: أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمراد بالذين اختلفوا اليهود والنصارى، ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق في
تفسيره بإسناد صحيح على شرطهما من حديث أبي هريرة في قوله (فَهَدَى اللّهُ
الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ
يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا الجنة، بيد أنَّهم
أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق
بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغدا
لليهود وبعد غد للنصارى، والحديث أخرجه الشيخان من دون الزيادة التي في أوله، وثبت
في صحيح مسلم من حديث عائشة أن رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول في صلاة الليل: "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تَهدي
من تشاء إلى صراط مستقيم".
البقرة 214 ما
يصيب المؤمنين من شدة البلاء: (أَمْ حَسِبْتُمْ) أم منقطعة بمعنى بل، وتقدر
الهمزة بعدها، أي بل أحسبتم (أَن
تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ) (وَلَمَّا يَأْتِكُم) أي لم يأتكم بعدُ، ولما من
الحروف التي تجزم المضارع، والواو للحال (مَّثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم) أي مضوا من المؤمنين، أي مِثْلُ مَثلِهم، أي ما أصابَهم (مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء) أي الفقر (وَالضَّرَّاء) أي السُّقم في الأبدان (وَزُلْزِلُواْ) بأنواع البلايا والمحن، أو خُوفوا
من الأعداء (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى) أي يأتي (نَصْرُ اللّهِ) استطالوا المدة، ولم يشكوا ولم
يرتابوا (أَلا) أداة استفتاح للتنبيه (إِنَّ
نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) وقرأ نافع: "حتى يقولُ" بالرفع على أنّها حكاية حال ماضية، قال
ابن مالك: " وتلوَ حتى حالاً اوْ مؤوَّلا ــ بِهِ ارفعنَّ وانصبِِ المستقبلا
" ووجه ارتباط هذه الآية بالتي قبلها أن الهداية إلى الطريق المستقيم الذي هو
سبيل الجنة، تقتضي الابتلاء ليظهر الصادق من غيره.
البقرة 215 ما
جاء في الإنفاق: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ) أي من الأموال (قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) سألوا ماذا ينفقون فأجابَهم
ببيان من ينفَق عليهم لأنه أهم، وهذه الآية في الصدقات المتطوع بِها، وقيل في
الزكاة أيضا، وبِها استدل من أباح صرف الزكاة للوالدين، والتحقيق يقتضي أنَّها وإن
كانت نزلت في صدقة التطوع، فلا يمتنع تطبيقها على صدقة الفريضة، لأن النفقة أعم من
أن تكون واجبة أو مندوبة، فلا يمنع على الْمُعْسر إعطاء الزكاة لوالديه، بخلاف
الموسر، والله سبحانه أعلم (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ) أي تجدوا جزاءه عند الله سبحانه
(فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) لا يعزُب عن علمه شيء.
البقرة 216 فرض
الجهاد على الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله
(وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) أي مكروه، وذلك لما فيه من المشقة وتلف الأموال والأنفس (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا) أي فتتركوه لكراهة النفوس إياه (وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) أي ولكم فيه خير كثير، وكذلك النفوس جُبلت على كراهة الطاعات التي هي سبب
سعادتِها (وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا) أي فتأتوه لمحبتكم إياه (وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) وكذلك النفوس جُبلت على حب المعاصي والمشتهيات التي فيها هلاكها، وعسى
تأتِي للترجي، وهي هنا للإشفاق (وَاللّهُ
يَعْلَمُ) أي الذي فيه الخير
لكم والذي هو شر لكم (وَأَنتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ) ذلك.
البقرة 216 ما
جاء في الأشهر الحُرُم: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) اللام فيه للجنس أي الأشهر الحرم
(قِتَالٍ فِيهِ) بدل اشتمال، وذلك أن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم أرسل سرية لاستطلاع أخبار المشركين، ولم يأمرهم بقتال، فمر بِهم قوم من
المشركين، فقتلوا منهم وأسروا، وكان ذلك في آخر يوم من رجب (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي عظيم وزرُه (وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ) أي منع الناس من الدخول في دينه
وصرفهم عنه (وَكُفْرٌ بِهِ) أي جحد لنعمه وربوبيته لخلقه
وألوهيته (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي وصد الناس عن المسجد الحرام (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أي المؤمنين الذين أخرجوا من
ديارهم بغير حق (أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ) أي أعظم وزرا من القتال في الشهر
الحرام (وَالْفِتْنَةُ) أي فتنة المؤمن عن دينه، وصد
الناس عن السبيل (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي في الشهر الحرام وغيره.
البقرة 216 وعيد
المرتدين وتبشير المؤمنين المجاهدين: (وَلاَ يَزَالُونَ) أي الكفار (يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ) (إِنِ اسْتَطَاعُواْ) فيه استبعاد لما يرومونه، وتثبيتٌ للمؤمنين (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ) يعني ولم يتب بعد ارتداده حتى
مات (وَهُوَ كَافِرٌ) (فَأُوْلَئِكَ) أي المرتدون، والإشارة بالبعيد لبيان بعدهم من الله سبحانه (حَبِطَتْ) أي فسدت وضاعت (أَعْمَالُهُمْ
فِي الدُّنْيَا) حيث عرضوا أنفسهم
لسخط الله بارتدادهم (وَالآخِرَةِ) فلا ثواب لهم (وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) أي أهلها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها (إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ) أي فارقوا الأوطانَ والأهل والأحباب، من الهجر وهو ضد الوصل (وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَتَ اللّهِ) لأن العمل وحده لا
يستوجب الرحمة، فلذلك عبر بالرجاء (وَاللّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
البقرة 219
ما جاء في الخمر والميسر : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) سميت خمرا لأنها تخمِر العقل أي
تستره (وَالْمَيْسِرِ) أي القمار، يسَر الرجلُ ييسَر
يَسْرا: إذا لعب بالميسر، ويسرَ الرجلَ: قامره، (قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) فيترتب الإثم على تعاطيهما، أو لأن تعاطيهما يؤدي إلى فعل ما يوجب الإثم
من ترك الطاعات وفعل المعاصي، وعلى هذا فهما محرمان بِهذه الآية، ولكنها ليست
صريحة في التحريم، وآية المائدة نصت على أنَّهما رجس من عمل الشيطان. أو المعنى:
فيهما ضرر عظيم على العقل والبدن والمال والمجتمع، بقرينة مقابلة الإثم بالمنافع (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) أي قليلة كالمتعة وهضم الطعام وتصفية اللون، وتحصيل المال بسهولة ويسر (وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) ومن أعظم أضرارهما اختلال العقل،
مما يترتب عليه حصول الخبائث كلها، والسرقة، وإضاعة العيال، وأكل أموال الناس
بالباطل.
البقرة 219 خير
الصدقة ما كان عن ظهر غنى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ) أي ما يفضل عن
الحاجة، ولا يعسُر بذلُه، وأصل العفو: أنه نقيض الجَهد، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى، وابدأ بمن تعول"؛ وفي الآية
المتقدمة: قال: "قل ما أنفقتم من خير فللوالدين"، فأرشدهم فيها إلى من
ينفقون عليهم، وهنا أرشدهم إلى ما ينفقونه من الأموال، وعليه فمورد السؤالين
مختلف، ولعل أسبابَ النّزول تدل على ذلك (كَذَلِكَ) أي كما بين لكم هذه (يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ) أي آيات الكتاب، لأنّها علامات
تدل على الطريق الموصل إلى الله سبحانه (لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ) أي فتهتدوا إلى مصالحكم
ومنافعكم (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) وتجتنبوا كل ما يضركم فيهما.
البقرة 220 ما
جاء في اليتامى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) عن القيام بأمورهم والتصرف في
أموالهم، ففي سنن النسائي وأبي داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (ولا
تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) و (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما)،
اجتنب الناس مال اليتيم وطعامه، فشق ذلك على المسلمين، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأنزل الله الآية (قُلْ
إِصْلاَحٌ لَّهُمْ) أي إصلاح أموالهم بتنميتها، ومداخلتهم (خَيْرٌ) من اعتزالهم ومجانبتهم (وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ) أي في المأكل
والمشرب والمسكن (فَإِخْوَانُكُمْ) أي فهم إخوانكم في الدين (وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي من يخالطهم بنية الإصلاح أو
بنية الإفساد، فيجازي كلا بنيته (وَلَوْ
شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ) أي لأوقعكم في الحرج ولضيق عليكم، أي في هذا وغيره (إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ) أي غالب على أمره يفعل ما يشاء (حَكِيمٌ) ومن حكمته سبحانه رفع الحرج
والمشقة.
البقرة 221 تحريم
نكاح المشركات: (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (وَلأَمَةٌ) اللام لام القسم، والأمة هي المملوكة بملك اليمين، يقال للذكر: عبد،
وللأنثى: أمة (مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ) ونكاح الأمة بعد عتقها، قال رسول
الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا أدب الرجل أمته فأحسن
تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها، كان له أجران" (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي لنسبها أو جمالها أو مالها، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات
الدين تربت يداك". (وَلاَ
تُنكِحُواْ) أي لا تزوجوا (الْمُشِرِكِينَ) المؤمناتِ (حَتَّى
يُؤْمِنُواْ) (وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ) وقد أعتقت بريرة
وخيرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من زوجها، وكان عبدا، ووهم من
قال: كان حرا (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي أسباب دخولها (وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) ما يستوجبهما من الإيمان والعمل
الصالح (بِإِذْنِهِ) أي بتوفيقه (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) أي يتعظون بِها،
فيعملوا بموجِبها.
البقرة 222 ما
جاء في أحكام الحيض: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أي الحيض، وهو خروج الدم المعتاد
من المرأة البالغة على رأس كل شهر، وهو مصدر كالمجيء والمبيت، وقيل: اسم مكان أو
زمان بمعنى مكان خروج الحيض أو زمانه، والمراد السؤال عن أحكامه، (قُلْ هُوَ أَذًى) أي فيه أذى، أو هو موضع أذى، ودم الحيض مستقذر ونجس قليله وكثيره سواء،
يجب غسل اليسير منه من بدن المصلي وثوبه وموضع صلاته (فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء) أي لا تجامعوهن، وقد ثبت في
أحاديث صحيحة ومشهورة، أن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم كان يأمر نساءه أن يأتزرن، ثم يباشرهن فوق الإزار وهن حُيَّض (فِي الْمَحِيضِ) أي في زمانه، (وَلاَ
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ) أي بانقطاع الدم أو الاغتسال بعده، وهو الراجح، ويؤيده قراءة حمزة
والكسائي: "يطَّهَّرْن" (فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ) أي من المحل الذي أمرتم به،
ومنعتم عنه لعارض الأذى، وهذه صريحة في المنع من مجامعتهن قبل الاغتسال، وينوب عنه
التيمم بشروطه (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) فيه حث لهم على التوبة مما سلف
من بعضهم من الإتيان في زمن الحيض (وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ) أي المتنَزهين عن
الأقذار، ومن جملتها مجامعة النساء في المحيض. جاء في صحيح مسلم من حديث أنس: أن
اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوهن ولم يجامعوهن في البيوت، فسألوا
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأنزل الله تعالى (ويسألونك عن
المحيض قل هو أذى) الآية، فقال رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا:
ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أُسَيد بن حضير وعَبّاد
بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا
فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.
البقرة 223 ما
جاء في فضل النساء، حيث جعل الله أرحامهن موضعا لإنبات الذرية: (نِسَآؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ) أي مواضع حرث، أي
بمنْزلة مواضع الحرث، حيث شبهت النُّطف بالبذور (فَأْتُواْ
حَرْثَكُمْ) أي فأتوهنَّ، وهو
كناية عن الجماع (أَنَّى شِئْتُمْ) أي متى شئتم، أو كيف شئتم، وفي
الصحيحين من حديث جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دُبرها في
قبُلها، كان الولد أحول، فنَزلت الآية، (وَقَدِّمُواْ
لأَنفُسِكُمْ) أي من الأعمال
الصالحة ما يكون لكم ذُخرا يوم لا ينفع مال ولا بيعٌ ولا خُلة (وَاتَّقُواْ اللّهَ) أي عذابه وسخطه بطاعته وترك معصيته (وَاعْلَمُواْ
أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ) أي يوم القيامة فيحاسبكم ويجازيكم بما قدمتموه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) معطوف على "قل" في
الآية قبلها، أي بشرهم بالنعيم المقيم.
البقرة 224 لا
يجعل يمينه مانعة له من الخير: (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً
لِّأَيْمَانِكُمْ) أي فتبتذلوه بكثرة الحلف،
فإن في ذلك سوءَ أدب معه سبحانه (أَن
تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ) أي كراهة أن تفعلوا الخير، فإن
الإنسان يكره فعل الخير لعارض، فيحلف أن لا يفعله، لكنه يندم بعد ذلك، فيرغب في
فعل ما رغِب عنه أول الأمر. قيل: نزلت في عبد الله بن رَوَاحة، حين حلف على ختَنه
بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته. وقيل: نزلت
في أبي بكر لما حلف أن يقطع النفقة على قريبه مِسطح، لما وقع في إفك عائشة، وتحرير
المعنى: لا تجعلوا حلفكم سببا مانعا لكم من فعل الخير، وفي الصحيح: مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ (وَاللّهُ
سَمِيعٌ) أي لأقوالكم، ومن
جملتها الأيمان (عَلِيمٌ) بنياتكم، أي فلا تخالفوا أمره وتأدبوا معه بآدابه.
البقرة 225 ما
جاء في الأيمان: (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ
أَيْمَانِكُمْ) أصل اللغو الكلام،
لغا بالشيء: تكلم به، ومنه اللغو: ما لا يعتد به من الكلام أو الساقط منه، والمراد
ما سبق به اللسان من الأيمان من غير قصد الحلف، كقول الرجل لصاحبه في أثناء كلام:
صدقت والله، وقد يكون صاحبه كاذبا، فلا يحنث بنحو هذا، لأنه لم يقصد الحلف، وفي
صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنزلت هذه الآية في قول الرجل: لا والله
وبلى والله (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ) أي بما استقر في
القلب ووافق فيه القلب اللسان (وَاللّهُ
غَفُورٌ) يستر عليكم ما صدر
منكم من المخالفات والذنوب ويتجاوز عنها، (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة.
البقرة 226 ما
جاء في الطلاق: الإيلاء: (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِن نِّسَآئِهِمْ) الإيلاء هو الحلف، والمراد به هنا الحلف أن لا يمس امرأته بقصد الإضرار
بِها، وعُدي بـ"من" لتضمينه معنى الابتعاد (تَرَبُّصُ) أي انتظار (أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ)، أي أنه ينتظر أربعة
أشهر، وبعدها يقع الطلاق إن لم يفِئْ في المدة، أو بعدها (فَإِنْ فَآؤُوا) أي رجعوا في المدة أو بعدها (فَإِنَّ
اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي يتجاوز لهم عما صدر منهم من الظلم في حق نسائهم، وعليهم كفارة اليمين؛
وإذا كان إيلاؤه لشهر مثلا، فيجب عليه أن ينتظر شهرا فقط، ولا كفارة عليه، إلا إذا
فاء قبل مضي شهر كامل، تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين (وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ) أي عزموا عليه وصمموا قصدَه (فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بأحوالهم ونياتِهم، فيجازيهم على كل ذلك. وفيه دلالة على أن الطلاق لا
يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر، وهو قول الجمهور، قالوا: يوقف فيطالب إما بالفيء وإما
بالطلاق، وتكون طلقةً رَجعية. وقال الحنفية: إن لم يفئ في المدة بانت منه.
البقرة 228 ما
جاء في الطلاق الرَّجعي والعدة: (وَالْمُطَلَّقَاتُ) أي المدخول بِهن (يَتَرَبَّصْنَ) أي في الطلاق الرجعي (بِأَنفُسِهِنَّ
ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) يعني ينتظرن ولا
يتزوجن، لحق أزواجهن في الرجعة، وللتحقق من براءة الرحم من الحمل، وتبتدئ العدة من
أول طهر لم يمسها فيه، أخرج الشيخان من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض
فأمره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يراجعها، فإذا طهرت فأراد أن
يطلقها فليطلقها، ثم اختلفوا في انتهاء العدة، فذهب مالك والشافعي وداود وهو رواية
عن أحمد، إلى أن العدة تنتهي بانتهاء أطهارها بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة
بعد الطلاق، وفسروا الأقراء بالأطهار، واستدلوا عليه بقوله تعالى "فطلقوهن
لعدتِهن" أي في الأطهار، ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسَبا دل على أنه
أحد الأقراء الثلاثة المأمور بِها، والقول الثاني: أنّ عدتَها لا تنقضي حتى تطهر
من الحيضة الثالثة، زاد آخرون: وتغتسل منها، وفسروا الأقراء بالحيض وهذا مذهب أبي
حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل. (وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ
فِي أَرْحَامِهِنَّ) أي من الحمل أو
الحيض، وعلى هذا فيجب تصديقهن بما أخبرن به (إِن
كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (وَبُعُولَتُهُنَّ) جمع بعل كعمومة جمع عم، أي
أزواجهن (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في العدة، والمراد هو حق لهم،
على معنى: لا يجوز لأحد خِطبتهن في عدة الطلاق الرجعي (إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا) أي ولم يقصدوا الإضرار بِهن
بتطويل العدة، والمراد حث الأزواج على قصد الإصلاح (وَلَهُنَّ) أي على أزواجهن (مِثْلُ
الَّذِي) لأزواجهن (عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي ما عُرف حسنه في الشرع،
والمراد المماثلة في الوجوب لا فيما يجب، لاختلاف الأدوار (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي منْزلة، بما فضل الله بعضهم
على بعض من القوة في البدن وبما ينفقونه من أموالهم (وَاللّهُ عَزِيزٌ) غالب فينتقم ممن خالف أوامره، ففيها وعيد للرجال المتسلطين على النساء (حَكُيمٌ) فيما يشرعه لعباده.
البقرة 229 اختلاع
المرأة من زوجها: (الطَّلاَقُ) اسم والمصدر التطليق، أي الطلاق الذي يكون فيه للزوج حق الرَّجعة (مَرَّتَانِ) (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي بحسن المعاشرة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) أي تطليق يصاحبه الإحسان بأداء
الحقوق، وجبر القلوب، وبعد هذه الطلقة تبينُ المرأة من زوجها، ولا تحل له إلا بعد
أن يتزوجها غيرُه اختيارا، ثم يطلقها الغيرُ اختيارا، (وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ) أيها الأزواج (أَن
تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ) أي من الصداق وغيره (شَيْئًا) ولو كان حقيرا، والمعنى لا يحل
لكم أن تضيقوا عليهن ليفتدينَ منكم بما أعطيتموهن، وقد يكون الخطاب للحكام لكونِهم
الآمرين بالإيتاء، لا يحل لكم أيها الحكام أن تأخذوا منهن شيئا، فتردوه على
الأزواج (إِلاَّ أَن يَخَافَا) أي الزوجان أو يخاف أحدهما (أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ) أي حقوق الزوجية (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام (أَلاَّ
يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي من مالها لتختلِع من زوجها (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فيها وعيد شديد.
روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس
بن شَمَّاس إلى النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلُق، إلا أني أخاف
الكفر؛ فقال رسول الله صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فردت عليه وأمره
ففارقها. وكان ثابت رجلا دميما، أي قبيحا، وكانت تكرهه لدمامته، فلذلك خشيت ألا
تقوم بحقوقه، وهو ما عبرت عنه بالكفر، وهو كفران العشير، وليس الكفر بمعنى الخروج
من الملة. ولا يجوز للزوج الإضرار بزوجته لتختلع منه، كما لا يجوز للمرأة أن تطلب
الطلاق من زوجها من غير ما بأس، ففي سنن الترمذي وأبي داود ومسند أحمد من حديث ثوبان
أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا
من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة. قال الترمذي: حديث حسن. وهو محمول على الزجر
والمبالغة في الوعيد، لما تقرر في الأصول أن من يحرم عليه الجنة هم الكافرون.
البقرة 230 ما
جاء في الطلاق الثلاث: (فَإِن طَلَّقَهَا) أي بعد التطلقتين (فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ) أي بعد التطلقة الثالثة (حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) أي حتى يتزوجها رجلٌ غيرُه،
ويمسَّها في ذلك الزواج، ولا تحل له بمجرد العقد، أخرج الشيخان من حديث عائشة أن
رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت، فطلقت، فسئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتحل للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عُسيلتها كما ذاق الأول؛ فإذا تزوجها من أن
أجل أن يُحلها له، فهو بمنْزلة من زنى بِها، ولا تحل للأول، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لعن الله المُحِلَّ والمحَلَّل له، وقال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟
قالوا بلى يا رسول الله، قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّلَ له، إذ
ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود رَدْعُ الأزواج عن التسرع إلى الطلاق، حتى لا
تكون النساء أُلعوبة في أيدي الرجال، يُطلِّقون متى شاءوا ويرتجعون مت شاءوا. (فَإِن طَلَّقَهَا) أي الزوج الثاني (فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا) أي بعد انتهاء عدتِها (إِن ظَنَّا
أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ) أي حقوق الزوجية (وَتِلْكَ
حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
البقرة 231 تحريم
مراجعة المرأة لتطويل العدة: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ) أي آخرَ عدتِهن (فَأَمْسِكُوهُنَّ) إن راجعتموهن (بِمَعْرُوفٍ) حسن المعاشرة (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ) أي خلُّوهن وأَطْلقوهن (بِمَعْرُوفٍ) والمعروف ما عُرف حسنه بالشرع أو
بالعقول السليمة من الأهواء (وَلاَ
تُمْسِكُوهُنَّ) أي لا تراجعوهن (ضِرَارًا) أي للإضرار بِهن، أو مُضارِّين بِهن (لَّتَعْتَدُواْ) أي لتظلموهن بتطويل العدة عليهن،
أو تضطروهن إلى الافتداء بأموالهن (وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ) أشار إليه بالبعيد
لبيان قبحه (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها لسخط الله (وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا) أي مهزوءا بِها (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ) أي بشكرها وعدم كفرانِها (وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةِ) فهم أسرار الكتاب، وقد فسرت بالسنة لأنّها المبينة للكتاب، (يَعِظُكُم بِهِ) أي بالمُنْزَل (وَاتَّقُواْ
اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيها وعيد شديد.
البقرة 232 نَهي
الأولياء عن عضل المرأة من زوجها الكُفْء: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ) أي انقضت عدتُهن،
خطاب للأزواج، أو لأولياء المرأة باعتبارهم المتسببين في الطلاق (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) أيها الأولياء، أي لا تمنعوهن (أَن
يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) أي المطلقين (إِذَا
تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ) أي إذا رغبت فيه ورغب فيها، فلا يجوز للولي حينئذ عضلها، روى البخاري من
حديث معقل بن يسار قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتُها جاء
يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرَشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا
تعود إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله
هذه الآية "فلا تعضلوهن" فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، فزوجها إياه (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي لقلوبكم (وَاللّهُ يَعْلَمُ) ما فيه النفع لكم (وَأَنتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ).
البقرة 233 ما
جاء في الرضاع والحضانة: (وَالْوَالِدَاتُ) أي الوالدات عامة، والمطلقات
منهن خاصة (يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ) خبر بمعنى الأمر (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) أي عامَين (لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) أي إرضاع حولين كاملين لمن أراد
إتمام الرضاعة وليس واجبا (وَعلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ) أي الوالد (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي بما جرت به عادة أمثالهن في
بلدهن، من غير إسراف ولا إقتار، أو حسب ما يراه الحاكم (لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا) كقوله تعالى "لينفق ذو سعة
من سعته" (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ) أي لا تضارَّ زوجها (بِوَلَدِهَا) أي بسببه، بأن تطلب ما ليس بعدل في الرزق والكسوة، أو تقول بعدما ألفها
الصبي: اطلب له ظِئرا (وَلاَ مَوْلُودٌ
لَّهُ) أي ولا يضارَّ والدٌ
امرأةً (بِوَلَدِهِ) أي بسببه، بأن ينتزع الولد منها
إضرارا بِها، وهي تريد إرضاعَه، أو يمنعها شيئا من رزقها وكسوتِها؛ ويجوز أن يكون
المعنى: لا تَضُر والدة ولدَها ولا والدٌ ولده، أي لا يلحقْ أحدهما به الضرر (وَعَلَى الْوَارِثِ) وارث الوالد، وقيل: وارث الصبي (مِثْلُ
ذَلِكَ) أي مثل ما على الوالد
من النفقة، إن لم يكن للوالد مال.
البقرة 233
ما جاء في الاسترضاع والفطام قبل الحولين: (فَإِنْ أَرَادَا) أي الوالدان (فِصَالاً) أي فطاما للولد قبل تمام الحولين، وتنكيره لإفادة أنه غير معتاد، وأن
الأفضل هو الإتمام (عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ) أي في مصلحة الولد (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أي فلا إثم، وقد فهم ارتفاع
الإثم من قوله لمن أراد أن يتم الرضاعة، وإنما أعاده هنا على سبيل التفصيل، (وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ) أي تطلبوا لهم المراضع (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي مع مراعاة عدم الإضرار بالولد
وعدم مضارة أمه إذا رغبت في إرضاعه (إِذَا
سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم) أي ما ضمنتم والتزمتم إيتاءَه المراضع (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما هو متعارف عليه واستحسنه
الشرع، وأما إذا وقعت المخالفة بين الوالدين في أجرة الرضاع، بأن طلبت كثيرا، أو بذل
قليلا، فللرجل الحق في استرضاع أخرى، قال تعالى: " وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى
"، ولو رضيت الأم بما استؤجرت به الأخرى كانت أحق بولدها (وَاتَّقُواْ اللّهَ) (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيها وعيد شديد
للمخالفين.
البقرة 234 عدة
المتوفى عنها زوجُها: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ) أي تُقبض أرواحهم، أي يموتون (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) أي يتركون نساءً لهم (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ) أي ينتظرن، أي النساء المتوفَّى
أزواجهن (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) أي وعشر ليال، أو عشرة أيام،
والتأنيث بحسب اللفظ فقط، فهذه هي عدة المتوفى عنها، وغير المدخول بِها أيضا عليها
العدة ولها الصداق والميراث؛ وأما الحامل فعدتُها وضع الحمل، ولو لم تستكمل أربعة
أشهر وعشرا، ويجوز لها أن تتجمل بعد الوضع للخطاب إذا طهُرت من نفاسها (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) انقضت عدتُهن (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأولياء (فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ) أي من التجمل (بِالْمَعْرُوفِ) أي معروف حسنُه بالشرع أو بالعقول السليمة ولم ينكره الشرع (وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وعيد للمخالفين.
البقرة 235 جواز
التعريض بخِطبة المرأة المتوفى عنها في عدتِها: (وَلاَ جُنَاحَ) أي لا إثم (عَلَيْكُمْ) والخطاب لمن يبتغي الزواج (فِيمَا
عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء) أي المتوفى أزواجهن من غير تصريح، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: يقول:
إني أريد التزويج، ولوددت أنه تيسرَ لي امرأةٌ صالحة. أو يقول: إن الله لسائق إليك
خيرا أو نحو هذا، ولا يواعد وليها بغير علمها؛ وأما المطلَّقة الرجعية أو البائنة
فلا يجوز التعريض بخطبتها في العدة، وقياسهما على معتدة الوفاة غير مستقيم لوجود
الفرق (أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ) أي فيما أضمرتموه في قلوبكم من
الرغبة في نكاحهن بعد انقضاء العدة (عَلِمَ
اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) ولا تصبرون على إخفاء الرغبة فيهن (وَلَكِن
لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي نكاحا، أو لا تواعدوهن نكاحا في السر (إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) أي إلا مواعدة بقول معروف، وهو
ما رخص لكم من التعريض فحسب.
البقرة 235 تحريم
عقد النكاح قبل انقضاء العدة: (وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ
النِّكَاحِ) أي لا تعقدوا
النكاح، ونَهى عن العزم مبالغة في الزجر (حَتَّىَ
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) حتى تنقضي العدةُ المكتوبة، أي المفروضة، وتبلغ أجلها. ومن تزوج امرأة في
عدتِها فدخل بِها فإنه يفرق بينهما، قال الجمهور: يجوز له أن يخطبها إذا انقضت عدتُها.
وذهب مالك إلى أنَّها تحرم عليه أبدا، واستدل لذلك بأثر رواه عن عمر بن الخطاب،
وهو منقطع، قالوا: ومأخذ هذا أن هذا الزوج لما استعجل ما أحل الله قبل أوانه، عوقب
بحرمانه، فحرُمت عليه على التأبيد، كالقاتل يُحرَم الميراث، والله أعلم (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ) أي من الهم والعزم على مخالفة
أوامره (فَاحْذَرُوهُ) أي احذروا عقابه باجتناب ما
يسخطه (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ) يستر الذنوب ويتجاوز عنها (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة، ففيها حث لهم على التوبة.
البقرة 236 الطلاق
قبل المسيس وقبل تسمية المَهر: (لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي لا إثمَ مترتِّبٌ ولا تبعةَ
من مَهر (إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنُّ) المس كناية عن الجماع
(أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي الصداق، ويجوز أن تكون أو
بمعنى "إلا أن": فيصير المعنى: إلا أن تفرضوا لهن صداقا فتكون عليكم
تَبِعتُه (وَمَتِّعُوهُنَّ) أي أعطوهن الْمُتعة، أي ما
يتمتعن به، حسب ما يطاق (عَلَى
الْمُوسِعِ) أي الغني (قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ) أي الفقير (قَدْرُهُ) (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ) أي تمتيعا من غير إسراف أو
تقتير، قال ابن عباس: أعلاها الخادم وأدناها الكسوة (حَقًّا) مصدر حُذف عامله وجوبا أي حُقَّ ذلك حقا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي إلى أنفسهم، أي بالمسارعة في الخيرات، أو إلى الناس بإسداء المعروف.
البقرة 237
الطلاق قبل المسيس وبعد تسمية المَهر: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
تَمَسُّوهُنَّ) (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي سميتم لهن صداقا (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي فلهن عليكم نصف الصداق المفروض (إَلاَّ
أَن يَعْفُونَ) أي إلا في حال عفوهن
(أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) أي الولي الذي بيده إنكاح
المرأة، وهذا هو الأنسب بمساق النظم الكريم، وقيل: هو الزوج، بأن يعفو هو ويدفع
لها الصداق كاملا، وقد جاء فيه حديث عن النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم، إلا أنه يُعَكِّر عليه أنه غير مناسب لمساق النظم الكريم، لأن مساق النظم
على هذا المعنى: إلا أن يعفون أو تعفوا أنتم (وَأَن
تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ما يتفضل به بعضكم على بعض
بمقتضى أخوة الإيمان (إِنَّ
اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيثيبكم بكل عمل صالح ولا يضيع لكم أجرا.
البقرة 238 المحافظة
على الصلوات: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ) أي بأدائها في أوقاتِها
والمحافظة على آدابِها (والصَّلاَةِ
الْوُسْطَى) أي الفضلى منها أو
المتوسطة بينها، واختلف في تعيينها، فذهب الأكثر إلى أنّها صلاة العصر، ومنهم من
قال: صلاة الصبح، ومنهم من قال: صلاة الظهر، وليس هذا محل بسط القول في المسألة،
إذ المحافظة على كل الصلوات مطلوب شرعا، ولم يرد في الشرع ما يسوغ التهاون بصلاة
من الصلوات (وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) أي خاشعين ساكنين ذاكرين، أو
مطيعين، أخرج الشيخان من حديث زيد بن أرقم قال: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى
نزلت فأمرنا بالسكوت.
البقرة 239 الصلاة
عند الخوف: (فَإنْ خِفْتُمْ) أي من العدو أو غيره، والذي وردت به السنة صلاة الخوف عند القتال (فَرِجَالاً) أي ماشين (أَوْ رُكْبَانًا) أي راكبين، مستقبلي القبلة وغير
مستقبليها كما جاء في الحديث (فَإِذَا
أَمِنتُمْ) أي مما تخافون (فَاذْكُرُواْ اللّهَ) أي فصلوا صلاة الآمنين، وأدوا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها
وقيامها وقعودها، وعبر بالذكر لأنه هو المقصود الأكبر من أفعال الصلاة، كما كان
المقصودَ من مناسك الحج وغيره (كَمَا
عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) أي مثل ما أنعم عليكم وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة؛ وكلما ازداد
علم العبد بالقرآن والسنة كان مطلوبا منه أن يكون أكثر الناس ذكرا لربه بما أنعم
عليه من العلم، ليشكر النعمة، ولا يكون ما تعلَّمه حجة عليه.
البقرة 240
ما جاء في متعة المتوفى عنها: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا وَصِيَّةً) أي فليوصوا وصيةً، كذا قرأ عاصم وغيره، وقرأ نافع وآخرون بالرفع، أي
عليهم وصيةٌ (لِّأَزْوَاجِهِم) أي أن يمتَّعن (مَّتَاعًا) أي تمتيعا بالنفقة والسكنى (إِلَى
الْحَوْلِ) أي حولا كاملا (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) أي من غير إخراج، وهذا الحكم منسوخ بالأربعة أشهر وعشر في الآية
المتقدمة، وإن تأخرت هذه في التلاوة، ونُسخت الوصيةُ بالنفقة بالميراث، وبقي أن
تعتد أربعة أشهر وعشرا في بيت زوجها؛ وقد قيل لعثمان: قد نسختها الآية الأخرى فلم
تكتبها؟ قال: لا أغير شيئا منه من مكانه؛ (فَإِنْ
خَرَجْنَ) أي بعد انتهاء
الحول، أو في أثنائه إن اخترن الخروج (فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ) كالتجمل للخطاب (وَاللّهُ عَزِيزٌ) أي غالب (حَكِيمٌ) فيما يشرع، فلا تخالفوا شرعه. وقال مجاهد: إن ما ذكر هنا ليس على الوجوب،
وإنما هو من باب الوصاة بالزوجات، ولكن إذا اخترن الخروج فلا يمنعن منه، فذهب إلى
عدم النسخ، والله أعلم.
البقرة 241
ما جاء في متعة المطلقات: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ) أي كل مطلقة (مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي المؤمنين، والتعبير بالمتقين
لحثهم على الامتثال. ومنهم من خص المطلقات بغير المدخول بِهن، كما في الآية
الأخرى: "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة
ومتعوهن على الموسع قدره" الآية، وأُجيب بأن هذا من باب ذكر فرد من أفراد
العموم، فلا يستلزم التخصيص (كَذَلِكَ) أي مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) لأنّها علامات تدلكم على مصالحكم
عاجلا وآجلا، وعلى الطريق الموصل إلى الله سبحانه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تُعملوا فيها عقولكم، وتتفكروا فيها فتهتدوا إلى أنَّ فيها صلاحَ
أمركم في الدنيا والآخرة.
البقرة 243 لا
يغني حذر من قدر: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) عدي فعل الرؤية بإلى لأنه بمعنى
ألم تنظر، والمراد تعجيب المخاطب من حالهم (وَهُمْ
أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) أي فارين من أسباب الموت (فَقَالَ
لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ) أي أماتَهم، وكانوا أهل بلدة من بني إسرائيل، أصابَهم وباء شديد، فخرجوا
فرارا من الموت، فنَزلوا واديا أفيح فملؤُوا ما بين عُدوتيه، فأرسل الله إليهم
ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه، فصاحا بِهم صيحة واحدة فماتوا عن
آخرهم موتة رجل واحد، (ثُمَّ
أَحْيَاهُمْ) بدعوة نبي من
أنبيائهم يقال له حزقيل، وقيل غيره؛ وذلك بعد دهر طويل، حيث تمزقت عظامهم (إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ) أي عظيم (عَلَى النَّاسِ) أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة التي تدلهم عليه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) بعدم النظر في الآيات وعدم العمل
بِها.
البقرة 244 إنفاق
المال في الجهاد: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) أي لإعلاء كلمته (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ)
بأعمالكم وأحوالكم، فلا يضيع لكم كلاما طيبا ولا عملا
صالحا، يعلم من يرغب الناس في الأعمال الصالحة ومن جملتها الجهاد بالنفس والمال،
ويعلم من يثبطهم، فيجازي كلاًّ بقوله وعمله (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا
حَسَنًا) الإقراض مستعار
لتقديم العمل الصالح طلبا للثواب، والظاهر أن المراد إنفاق المال في الجهاد (فَيُضَاعِفَهُ) أي جزاء القرض، وقرأ نافع: "فيضاعفُه" (لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) والضعف هو مثل الشيء، أي أمثالا
كثيرة، لا يعلم عددها إلا الله (وَاللّهُ
يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) يضيق الرزق على بعض
ويوسعه على بعض حسب حكمته (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) أي فيجازيكم على ما
قدمتموه؛ وإليه يرجع كل شيء، ومن ذلك هذه الأموال التي رزقكم إياها فلا تبخلوا بِها
عليه.
ذم من تولى
عن القتال (قصة طالوت ونصره على جالوت وجنوده): (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ) الملأ: الوجوه والأشراف من القوم
(مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي اليهود (مِن
بَعْدِ مُوسَى) أي من بعد موته (إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ) قيل: هو شَمويل، وقيل: شمعون (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا) أي أقم لنا أميرا (نُّقَاتِلْ) مجزوم في جواب شرط مقدر بنحو:
"إن تبعثْه لنا نقاتلْ" (فِي
سَبِيلِ اللّهِ) وكان سبب طلبهم أنّهم
قدُ ابتُلوا بالأعداء فقتلوا منهم وأسروا وغلبوا على كثير من بلادهم، حتى بعث الله
إليهم هذا النبي ( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ) أي هل قاربتم وأوشكتم، وقرأ
نافع: "عسِيتُم" (إِن
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) شرط معترض بين اسم عسى وخبرها، أي هل عسيتم (أَلاَّ تُقَاتِلُواْ) (قَالُواْ وَمَا لَنَا) أي ليس لنا (أَلاَّ نُقَاتِلَ) أي عدم قتالنا، فكيف يتوقع منا، أو ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل (فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا
وَأَبْنَآئِنَا) أي ومن بين أبنائنا (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ) أعرضوا وتركوا القتال (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد شديد لهم.
الله يخلق ما
يشاء ويختار: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ
لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) أي أميرا في القتال (قَالُوَاْ
أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ) لأنه لم يكن من أبناء
الملوك (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) أي ليس واحدا من الأغنياء، وكان
فقيرا (قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) أي اختاره (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) وهبه العلم الكثير والقوة في
البدن، وقدم العلم لأنه أشرف، فهو بذلك يكون أعلم بالمصالح منكم، وأعلم بسياسة
الحروب، ويكون مَهيبا عند الأعداء وأقوى على مواجهتهم (وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء) أي فكفوا عن الاعتراض، لأن الأمر
لله يتصرف فيه كيف يشاء (وَاللّهُ
وَاسِعٌ) أي واسع الفضل (عَلِيمٌ) بعباده فهو يقسم بينهم فضله حسب علمه وحكمته، ويختص منهم من يشاء بما
يشاء.
البقرة 248 إرسال
الآيات لإقامة الحجة على المعاندين: (وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ
مُلْكِهِ) أي علامة اصطفاء
الله له بالملك، وروي أنَّهم سألوا نبيهم آية تدل على اصطفائه (أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) أي الصندوق، واللام فيه للعهد،
والمراد بِه صندوق التوراة، وكان قد رفعه الله إلى السماء سخطا على بني إسرائيل
لما تمادوا في الطغيان بعد موسى، وروي أيضا أنه استلبه منهم بعض الملوك في بعض
الحروب، وأخذ التوراة من أيديهم، ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل (فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ) أي تسكن قلوبكم وتطمئن لرؤية هذه
الآية، وقيل: كان شيئا في التابوت، يصرخ، فيستبشرون بالنصر، فيثبتون ولا يفرون (وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ
تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ) روي أنّها عصا موسى وغيرها (إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَةً) أي عظيمة (لَّكُمْ) تدلكم على الحق الذي أنتم مرتابون فيه (إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، لأن المؤمن لا
يعارض الحق إذا ظهر، أو إن كنتم تريدون الإيمان.
البقرة 249
نصرة الطيب بتمييز الخبيث منه: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ) أي انفصل عن بيت المقدس، والجنود
الأعوان والأنصار، روي أنّهم كانوا ثمانين ألفا، أي لما خرج بِهم (قَالَ) لهم (إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم) أي مختبركم وممتحن صدقكم وصبركم
(بِنَهَرٍ) أي من ماء (فَمَن
شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي من أنصاري، وهذا لتمييز الخبيث من الطيب، لأنّهم إذا لم يطيعوه هنا
فكيف يصبرون على مقارعة العدو في الميدان (وَمَن
لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) وقرأ نافع وآخرون
"غَرفة" (فَشَرِبُواْ مِنْهُ) أي أفرطوا في الشرب ولم يكتفوا
بالغرفة (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) في صحيح البخاري عن البراء بن
عازب: قال كنا أصحاب محمد صلى
الله عليه وعلى آله وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر بضعةَ عشرَ وثلاثَمائة على عدة أصحاب طالوت الذين
جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن، وقيل: بقي معه أربعة آلاف.
البقرة 249
النصر من الله وليس بالعدة والعدد: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ) أي النهر (هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ) فيه نفي الإيمان عن المتخلفين، (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) جالوت اسم قائد أعدائهم، قالوا
ذلك لما شاهدوا قلة عددهم وعُدَّتِهم، وشاهدوا من أعدائهم الكثرة في العدد
والعُدة، (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) الظن هنا بمعنى العلم، أي
يتيقنون (أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ) أي بالرجوع إليه يوم القيامة،
وهم الأكملون إيمانا منهم (كَم مِّن
فِئَةٍ) أي جماعة (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ) أي بأمره وعونه وتيسيره (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فيه تنبيه على أن الصبر هو مفتاح
النصر، ومنه الصبر على مقارعة الأعداء، قال النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر".
البقرة 250
الدعاء عند القتال: (وَلَمَّا بَرَزُواْ) أي ظهروا في الميدان (لِجَالُوتَ
وَجُنُودِهِ) أي لقتالهم (قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) أي على قلوبنا، استعارة
بالكناية، شبه الصبر بالماء البارد، وأشار إليه بشيء من لوازمه وهو الإفراغ (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) أي لكيلا نَفرَّ ولا نتزلزل عند اللقاء (وَانصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وهذه هي الغاية؛ (فَهَزَمُوهُم
بِإِذْنِ اللّهِ) أي فاستجاب الله
دعاءهم وغلبوا أعداءهم وكسروا شوكتهم (وَقَتَلَ
دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء) كصنعة الدروع، وكان ذلك بعد موت
طالوت (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) يدفعُ المفسدين
بالمصلحين والأشرارَ بالأخيار، وذلك الدفع بالكلمة أو بالسيف، أو بِهما معا، وقرأ
نافع "دِفاعُ" (لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ) أي بفساد أهلها،
فتضيعُ الحقوق وتتعطل المصالح (وَلَكِنَّ
اللّهَ ذُو فَضْلٍ) أي عظيم (عَلَى الْعَالَمِينَ) فليشكروه ولا يكفروه؛ (تِلْكَ
آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ) إشارة إلى قصة طالوت وجالوت، (بِالْحَقِّ) أي متلبسةً بالحق، مبينة له (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي واحد من الرسل الذين يوحى
إليهم لهداية الخلق، وإلا فأنَّى لك بمعرفة هذه الأخبار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق