الجمعة، 26 أغسطس 2016

الحزب 6 سورة آل عمران

آل عمران ما جاء في فضل البقرة وآل عمران: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَآلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ".
الغمامة أو الغياية: كل شيء أظلك من سحاب أو غيره، والفرقان: الجماعة، والبطلة السحرة، وصواف: أي صافات أجنحتها، لأنَّها في هذه الحالة ترد الشمس وتظلل ما تحتها.
آل عمران 1 القرآن منَزل من الله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم) حروف مقطعة، تُقرأ هكذا: أَلِفْ لاَمْ مِّيمْ، وكأن المقصود منها: أن هذا الكتاب المنَزل على هذا الرجل الأمِّيِّ، مركب من كلمات تشتمل على أمثال هذه الحروف، ومنها ينظم فُصحاء العرب أشعارهم وخُطَبهم، ومع ذلك فهم عاجزون عن معارضته ولو بأقصر سورة (اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) لا معبود يستحق العبادة سواه (الْحَيُّ) الذي لا يموت (الْقَيُّومُ) أي القيم بأمر غيره، وما سواه يحتاج إليه، ومن قيوميته سبحانه أن  ينَزل الكتب ليهتدي بِها الناس (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ِالْحَقِّ) أي القرآن حال كونه متلبسا بالحق، وحال كونِهِ (مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما أنزل قبله من الكتب (وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ) أي على موسى (وَالإِنجِيلَ) على عيسى (مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ) أي لهداية الناس إلى عبادته وحده دون سواه، (وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ) يأتي بمعنى القرآن، والمراد بِه هنا والله أعلم ما يفرق بين الحق والباطل، ويدخل فيه الحجج القاطعة والمعجزات الخارقة، التي أيد الله بِها رسله، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
آل عمران 4 وعيد الكافرين وذكر دلائل القدرة والربوبية: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ) أي جحدوا بِها (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) هو عذاب النار يوم القيامة (وَاللّهُ عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه شيء (ذُو انتِقَامٍ) ينتقم ممن خالف أوامره ويعاقبه بسوء أعماله (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) ومن ذلك كفر من كفر به (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ) جمعُ رَحِم: وهو مكان نشأة الجنين في بطن الأم (كَيْفَ يَشَاء) ذكورا أو إناثا، ويزيد في الصورة والجمال، وينقص من ذلك ما يريد حسب حكمته، وهذا من كمال علمه وقيوميته وقدرته وربوبيته، فالذي يصوركم في الأرحام، هو من يأمركم بعبادته وطاعة رسله، فلذلك كرر قوله: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) توكيدا لها، وردا على النصارى الذين يقرؤون الإنجيل، ويعبدون عيسى، ويزعمون أن الله ثالث ثلاثة، (الْعَزِيزُ) الغالب (الْحَكِيمُ) أي الْمُحكم لخلقه وأمره، فكيف تجعلون بشرا صوَّره اللهُ في رحم أمِّه كيف يشاء شريكا له في الألوهية.
آل عمران 7 ما جاء في المحكم والمتشابه من الآيات: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ) أي واضحات المعنى لا اشتباه فيها (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه، ويرد إليها غيرُها (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أي غير واضحة المعنى، أو تحتمل معاني متعددة، وعن ابن عباس: المحكمات الحلال والحرام والفرائض وما يُعمل به، والمتشابِهات ما يُؤمَن به ولا يُعمل به، (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل إلى الأهواء (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ) أي يبحثون في المتشابه ولا يعملون بالمحكم، طلبَ أن يفتنوا المؤمنين ويَلبِسوا عليهم دينهم (وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) أي حسب أهوائهم، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون فيه المتمكنون منه (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) يؤمنون به لرسوخهم في العلم (كُلٌّ) أي من المحكم والمتشابه منَزّل (مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) أي العقول السالمة من الأهواء.
أمثلة للمحكم والمتشابه من الآيات: روى الشيخان من حديث ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67]. فهذه الآية تشتمل على محكم وهو أن يقدروا الله حق قدره باتباع دينه، والمتشابه هو ما ذكر من القبضة والأصابع، فهذه نؤمن بِها، ولا نخوض فيها، وأما الزائغون فإنَّهم يبحثون في تأويل هذا المتشابه ولا يهمهم ما أمروا من تعظيم أوامر الله وحرماته، فهلكوا في المتشابه لأنَّهم لم يعملوا بالمحكم.
وروى الشيخان من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَالَ: " يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ". فهذا الحديث أيضا فيه شِقَّان: محكم ومتشابه، فالمحكم ما أمر الله به عباده من الاستيقاظ وترك الفراش، لمناجاته وطرق بابه للحاجات وتفريج الكربات، والتجاوز عن الخطيئات، وأما المتشابه فهو ما ذكر من نزوله إلى السماء، فنحن نؤمن به على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، على طريقة السلف من أهل السنة والجماعة، من غير تشبيه ولا تعطيل، وأما الهالكون فلم يعملوا بالمحكم، وناموا عن صلاة الفجر، وبالت في آذانِهم الشياطين، وصاروا يبحثون في كيفية النُّزول، يُلَبِّسُون بالمتشابه ليفتنوا به المؤمنين.
آل عمران 8 الدعاء بالتثبيت على الإيمان: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) لا تُمِلْها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً) أي نعمة من عندك، تغمرُنا بِها، ومن رحمتك بنا أن تطمئن قلوبنا بذكرك، فلا نرتاب أبدا في الحق الذي هديتنا إليه (إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) لا غيرُك بحال؛ وهذا من دعاء الراسخين في العلم، أي يقولون "آمنا به... إلخ"، ويدعون ربَّهم أن يثبتهم على الحق ويجنبهم من زيغ الزائغين (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ) أي ليوم عظيم لا شك فيه، أي لا ينبغي أن يشُك فيه أحد، أي للحساب والجزاء (إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، ولذلك، فنحن ندعوك لترحمنا بفضلك في ذلك اليوم العظيم.
آل عمران 10 وعيد الكافرين: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أي لن تدفَع عنهم (أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا) أي من عذابه، وكأن الأصل: لن تُغنيَهم، فيدفعون بِها عنهم العذاب، فاستغناؤهم بِها في الدنيا يدفع عنهم كثيرا مما ينتابُهم، ولكنها يوم القيامة بمعزِل عن ذلك؛ (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي ما تُوقد به من حطب وغيره، وقد مضى في البقرة: "وَقودها الناس والحجارة"، فالحصر إضافي وليس حقيقيا، (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي حالهم وشأنُهم في كونِهم وَقودا للنار، كحال هؤلاء وشأنِهم (كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) كلام مستأنف جاء جوابا على سؤال مقدر بنحو: ما شأنُهم؟ فأُجيب بأنَّهم كذبوا بآياتنا (فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي بذنوبِهم وتكذيبهم، أي عاقَبهم بسببها، (وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي للمكذبين الذين يسعون في الأرض فسادا.
آل عمران 12 وعيد الكافرين من اليهود بالهزيمة: لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم على قريش يوم بدر، قال لليهود: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحنُ الناسُ، فأنزل الله: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ) أي في الدنيا (وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ) أي تجمعون إليها في الآخرة (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي الفراش، (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) أي جماعتين (الْتَقَتَا) يعني المؤمنين مع الكافرين يوم بدر (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) (يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ) أي يرى المسلمون الكافرين ضعفيهم في العدد (رَأْيَ الْعَيْنِ) أي بأعينهم. فالمعنى اعتبروا بنصرة الفئة القليلة عددا وعُدة، فهذا نصر من الله لا صنع للبشر فيه. وقرأ نافع: "تَرونَهم".
وروى البخاري من حديث البراء: أن أصحاب بدر كانوا ثلاثَمائة وبضعة عشر؛ وروي عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثَمائة وثلاثة عشر، والمشركين كانوا ستَّمائة وستة وعشرين، ولكنه خلاف المشهور أن المشركين كانوا بين تسعمائة إلى ألف، وعلى هذا فهم ثلاثة أمثال المسلمين، فيُشكل هذا القول على ظاهر "يَرونَهم مثليهم"، أو المعنى: يرونَهم مثليهم بحسب ما يبدو للعين، وإن كانوا في الحقيقة ثلاثةَ أمثالهم؛ أو المعنى: يرى المشركون المسلمين ضعفيهم، وذلك لأن الله أمد المسلمين بمدد من الملائكة، لكن يُعكِّر على هذا القول قوله في سورة الأنفال: "ويقلِّلُكم في أعينهم"، وأيضا فإن ما سيقت له الآية هو الاعتبار بنصرة القلة على الكثرة، فلذلك قال: (وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء) أي بغير الأسباب العادية (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً) أي موعظة ودلالة عظيمة (لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ) أي لذوي البصائر والعقول السالمة من الأهواء.
آل عمران 14 الحث على الإعراض عن الدنيا: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) أي المشتهيات، والمراد زينت لهم فأحبوها (مِنَ النِّسَاء) "من" بيان للشهوات، ولأن الخطاب موجه بالأصالة للرجال، قدم أشد فتنة يفتتنون بِها، وهي النساء، وهذا مشهود، فبِمَا ميَّزهن الله من الجمال والتزين، يسلُبْن لب الرجل الحازم، وليس هذا من باب إقصاء النساء، وإنما هو إخبار بالحقيقة في نفس الأمر، إذ لا يستقيم قلب الكلام فيقال: زين للنساء حب الشهوات من الرجال مثلا، لأن هذا الأمر وإن كان حقيقة، لكنه مما تستنكِف عنه النساء، فجاء الكلام على أحسن وجه وأسلمه (وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ) جمع قنطار وهو المال الكثير، (الْمُقَنطَرَةِ) أي المضعَّفة، والمقصود التكثير (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) أي الراعية، سوَّم ماشيته: أرسلها ترعى، أو المعلَّمة بالغُرة والتحجيل، أي بياض في جباهها، وفي قوائمها، وقال مجاهد: المطَهَّمة الحسان، والمطهمة: هي السمينة (وَالأَنْعَامِ) أي الإبل والبقر والغنم (وَالْحَرْثِ) أي الزروع والثمار.
الحث على الإعراض عن الدنيا: (ذَلِكَ) ما ذكر من الشهوات (مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي ما يُتمتع به فيها؛ وعلى هذا فالنساء أيضا من جملة المتاع، وفي صحيح مسلم: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة"، ولما كان الرجل هو الذي يأويها إليه وتلزمه نفقتها وسكناها، عبر عن ذلك بأنَّها خير متاع، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاطب بذلك الرجال في معرض حثهم على التزوج من المرأة الصالحة، ولو أن امرأة قالت للنساء: " الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا الرجل الصالح" لكان كلاما صحيحا، ولا اعتراض يَرِدُ عليها، وعلى هذا فلا إشكال في العبارة، حتى لا يتخذها الملحدون فجوةً لنفث السموم (وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) المآب الحسن، أي المرجع وهو الجنة، أي هذا الذي عندكم تستمتعون به، والله عنه خير من ذلك، ولكن شغلكم العاجل عن الآجل.
آل عمران 15 الحث على الاستعداد للآخرة: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ) أي الذي زُين لكم من المتاع، والإشارة إليه بالبعيد، لإبعاده عن القلوب التي تعلقت به (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي فعلوا المأمور واجتنبوا المحظور فاتقوا بذلك ما ينتظر غيرهم من العذاب (عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) (وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) أي من الأقذار كالحيض والنفاس، أي هنَّ خير من نساء الدنيا، والمعنى على النهي عن الافتتان بنساء الدنيا، إما بالوقوع في الحرام، وإما بتلبية كل مطالبهن، حتى يشغلن المرءَ على الطاعة برغبتهن في الاستكثار من زينة الحياة الدنيا، (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ) أي عظيم، وفي الصحيحين أن الله يقول لأهل الجنة: أنا أعطيكم أفضل مما أنتم فيه، أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) وعليم بأحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بما قدَّموه.
آل عمران 16 صفات المتقين: لما ذكر الله ما أعده للمتقين، أعقبه بذكر صفاتِهم فقال: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) أي اغفر لنا بإيماننا (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (الصَّابِرِينَ) أي على فعل الطاعات وعن فعل المعصيات، وعلى ما يصيبهم من المصائب، فلا يجزعون عندها (وَالصَّادِقِينَ) أي في إيمانِهم وفي أقوالهم، فلا يخالف سرُّهم علانيتهم ولا ظاهرُهم باطنَهم (وَالْقَانِتِينَ) أي المداومين على الطاعات (وَالْمُنفِقِينَ) أي مما آتاهم الله من الأموال (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) أي يستغفرون في آخر الليل قبل طلوع الفجر، في صلاتِهم وفي غيرها، وفي الصحيح أن الله تعالى ينادي في ثلث الليل الآخر: من يستغفرني فأغفرَ له، وكان ابن عمر يصلي من الليل، فإذا جاء السحر، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح، وفي سورة الذاريات "وبالأسحار هم يستغفرون"؛ أمضوا ليلهم في عبادته، ثم أقبلوا عليه يستغفرونه.
آل عمران 18 الله تعالى هو المتفرد بالإلهية: (شَهِدَ اللّهُ) وكفى به شهيدا (أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق وأن الجميع عبيدُه، وشهادته على ذلك بكلامه وآياته كتابه الناطقة بذلك ومنها هذه الآية، أو بما نصبه من الآيات الكونية، الدالة على قدرته وربوبيته المستلزمة لإلهيته (وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ) أي بما أوتوا من العلم (قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ) أي حال كونه قائما بالعدل، أي عادلا في أفعاله، وهذا من صفات كماله المستلزِمة لاستحقاق الإلهية دون سواه، ثم كرر قوله: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) للتأكيد، لما روي أنّها نزلت في النصارى حيث جادلوا في أمر عيسى عليه السلام (الْعَزِيزُ) الغالب (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله وشرعه، فلا اعتراض عليه في شيء.
آل عمران 19 دين الله هو الإسلام: (إِنَّ الدِّينَ) أي المقبول أو المرضيَّ (عِندَ اللّهِ) أي في حكمه هو (الإِسْلاَمُ) أي الانقياد لله، ويدخل فيه الإقرار بالقلب والعمل بالجوارح، ومعناه هنا توحيد الله بالعبادة، وهو الدين الذي أُرسل به موسى وعيسى وكل الرسل، والآية رد على أهل الكتاب في تمسكهم بدينهم الباطل المحَرَّف، فلذلك قال: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ) أي في شأن التوحيد، حيث زعموا أن الله ثالث ثلاثة، أو في نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم (إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ) أي العلم بالتوحيد، أو ما عرفوه وقرؤوه في كتبهم من صفات محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم الآن يشهدونَها (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي بغي بعضهم على بعض، فاختلفوا في التوحيد لتحاسدهم وتباغضهم، أو حسدا منهم للمسلمين لم يتبعوا محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أي فسيحاسبه الله، لأنه سريع الحساب لا يشغله شأن عن شأن.
(فَإنْ حَآجُّوكَ) أي جادلوك بعدما ظهر لهم الحق وقامت عليهم الحجة (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ) أي انقدت له وأخلصت له عبادتِي، لأن الاستمرار في مجادلتهم مع سطوع الحق لا ينفع، والتعبير بالوجه عن الكل لأنه أشرف الأعضاء (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي أنا ومن اتبعني، وجوَّزَ حذفَ الضمير المنفصل وجودُ فاصل آخر، أو التقدير: ومن اتبعني أسلمَ وجهه كذلك (وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ) أي العرب، والمراد تعميم البلاغ، بعد ظهور الحجة للمجادلين (أَأَسْلَمْتُمْ) يعني أم لا زلتم معاندين مصرين على الشرك (فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ) أي للطريق المستقيم الذي فيه منفعتهم العاجلة والآجلة (وَّإِن تَوَلَّوْاْ) أعرضوا ولم يريدوا (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ) أي فلا حرج عليك لأنك أديت ما عليك (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) فيه وعيدهم على ما هم عليه من الإعراض.
آل عمران 21 ذكر بعض قبائح أهل الكتاب المانعة لهم من الإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ) (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي بالعدل، أي الدعاة إلى إقامة الحق (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم موجع، والبِشارة هنا للتهكم بِهم، لأنّها في الأصل في الخير، فإذا استعملت في غيره فُهِمَ منها التهكم والسخرية، والفاء دخلت على خبر إن لتضمن الموصول معنى الشرط، (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) أي أعمالهم الصالحة من عبادة أو صلة رحم، بطلت وضاع نفعها، والإشارة بالبعيد لبيان فظاعة حالهم ومآلهم (وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) من ينصرهم وينقذهم من عقاب الله وعذابه.
آل عمران 23 إعراض أهل الكتاب عن التحاكم إلى كتاب الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ) المراد التعجيب من حالهم (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ) أي التوراة (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي ليفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ) (وَهُم مُّعْرِضُونَ)  حال مؤكدة، لأن الإعراض بمعنى التولي، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) وهي بزعمهم أيام عبادتِهم العجل، وهي أربعون سوما، أو سبعة أيام، قالوا إن الدنيا سبعة آلاف سنة ونعذب عن كل سنة يوما واحدا (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) أي فصاروا يصدقون كذبَهم، وكذلك حال الكاذبين (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ) أي كيف يكون حالهم وبماذا سيجيبون عند السؤال (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) جزاءَ (مَّا كَسَبَتْ) من خير أو شر، أو أوتيت جزاءها وافيا كاملا (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) أي بتنقيص حسناتِهم أو الزيادة في سيئاتِهم.
آل عمران 26 التوكل على الله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنْزِِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء) إرشاد من الله لنبيه إلى شكر النعمة، حيث صارت النبوة إلى هذه الأمة (وَتُعِزُّ مَن تَشَاء) أي تقويه بالنصر (وَتُذِلُّ مَن تَشَاء) أي تجعله ذليلا مغلوبا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملة ذلك إعزاز المؤمنين ونصرهم وإذلال الكافرين (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) استعار الإيلاج لتعاقب الليل والنهار ومجيء أحدهما بعد الآخر، فإذا اختفى أحدهما فكأنه دخل في الآخر، ويؤيده قوله: "يُغشي الليلَ النهارَ" أو المعنى: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا، (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالحيوان من النطفة، والشجر والنبات من الحبة (وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي النطفة من الحيوان والحبة من الشجرة (وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي ما لا يحصيه، والمراد أنه الرب الفاعل لما يشاء، وهو الذي اختار محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم للنبوة وأمته من بين الأمم، فلا معنى لأن تحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله.
آل عمران 28 النهي عن موالاة الكفار: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء) أي لا يُوَالُوهُم، والولي بمعنى الصديق والناصر (مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ) (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ) أي من دينه (فِي شَيْءٍ) أي فقد برئ من الله وبرئ الله منه (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) أي أن تخافوا منهم فتظهروا لهم المحبة، محافظة على دينكم وأنفسكم وأموالكم وأعراضكم، ويدل عليه قوله: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"، (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) أي عذابَه ونقمتَه في مخالفته (وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) أي فيجازيكم بأعمالكم (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) أي من ولاية الكفار ومحبتهم أو غير ذلك (يَعْلَمْهُ اللّهُ) أي فيحاسبكم عليه (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) أي وهو يعلم كل شيء (وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملة ذلك محاسبتكم؛ وصف نفسه بالقدرة بعد العلم، لأن علمَهُ بأعمال العباد يستلزم المحاسبة، والمحاسبةُ لا بد له من القدرة.
آل عمران 30 الاستعداد ليوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) أي محضرا ثوابه، أو مكتوبا في الكتاب، أي اذكروا ذلك اليوم ولا تغفلوا عنه، وهو يوم القيامة (وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ) أي من المعاصي التي تسوؤها، تجد سوء ما عملته وعقابه محضرا، أو مكتوبا في الصحف (تَوَدُّ) أي تتمنى النفس الظالمة (لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ) أي وبين ذلك اليوم (أَمَدًا بَعِيدًا) أي زمانا طويلا، أو مسافة كبيرة، أو تتمنى لو أن بينها وبين السوء أمدا بعيدا، ومما يؤيده قول المتبرئ من شيطانه: "يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين" (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) أي يخوفكم عقابه، فبادروا إلى طاعته واتركوا مخالفتَه (وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) ومن رأفته ورحمته بعباده أن حذرهم من عقابه ونقمته وأرشدهم إلى ما ينفعهم، أو المعنى: هو يحذركم، وأنتم لا تنتهون، فتستوجبون غضبه، ولكنَّ رأفته بكم تدفع عنكم كثيرا من غضبه وسخطه، كما في الحديث: "سبقت رحمتي غضبي".
آل عمران 31 الاتباع دليل صدق المحبة: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ) المحبة ميل المحب إلى المحبوب، والمراد بِمحبة الله ما يجده القلب من لذة التدبر في آيات الله، والتفكر في ملكوته، وفي أفعاله وفي صفاته، ولأنه سبحانه هو من أسبغ على عباده النعم، وهو الموصوف بكل كمال الْمُنَزَّه عن كل نقصان، فمحبته هي أشرف الْمَحاب، فمن جرَّب لذة الأذكار وتدبر القرآن في الليالي الطوال، وتضرع إلى الله ساجدا بين يديه، وأبكتهُ معاصيه خوفا أن تُبعدَه من حضرته، فذاك يفهم هذه المحبة؛ ويمكن أن يقال: ليس المراد الحب الوِجْداني، وإنما الحب العقلي الذي يستلزم ترجيحَ مراد الله على مراد النفوس، ومما يؤيده أن الحب الوجداني يزول بتوالي الغفلات، ويبقى الحب العقلي، والله أعلم (فَاتَّبِعُونِي) ومن لم يتبعه طعَنَ ذلك في صدق محبته (يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ) (فإِن تَوَلَّوْاْ) أي أعرضوا (فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) فهم مبعَدُون منه، مغضوب عليهم، ولا ينالون رضاه ما داموا على ذلك.
آل عمران 33 ذكر قصة آل عمران: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى) أي اختار (آدَمَ) أبا البشر (وَنُوحًا) أول رسول إلى أهل الأرض (وَآلَ إِبْرَاهِيمَ) ويدخل فيهم إسحاق والأنبياء من ذريته، وإسماعيل ومن ذريته محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، (وَآلَ عِمْرَانَ) عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم ابنة عمران، وهم داخلون  في آل إبراهيم، وإنما خصهم بالذكر لأن المقام يقتضي ذلك (عَلَى الْعَالَمِينَ) أي فضلهم على العالمين وجعلهم صفوة خلقه (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ) أي حال كونِهم ذرية مترابطة في النسب (وَاللّهُ سَمِيعٌ) أي لأقوال العباد (عَلِيمٌ) بأعمالهم وبِما تنطوي عليه قلوبُهم، واصطفاؤه لمن يصطفي حسب علمه وحكمته، أو المعنى فحيث اصطفاهم، فقلوبُهم متعلقة به ضارعة إليه، وألسنتهم مسبحة بحمده لا تكف عن ذكره ومناجاته، وهو سميع لأقوالهم عليم بأحوالهم، فيستجيب دعاءهم، فلذلك ذكر بعده دعاء امرأة عمران أن يتقبل منها.
(إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ) أي اذكر هذه القصة، أو التقدير والله سميع لها إذ قالت ما قالت، عليم بما في قلبها من صدق التضرع والالتجاء إليه (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) أي مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس، وكانت لا تحمل، فاشتاقت إلى الولد فدعت الله تعالى، فاستجاب الله دعاءها فحملت من زوجها، فلذلك نذرت أن تجعله خالصا لله، وهذا إذا وضعته ذكرا (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) أي اقبله مني راضيا عني (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي فأنت تسمع دعائي وتعلم ما في قلبي من صدق نيتي (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) أي المولودة (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى) والخبر هنا معناه إظهار الحسرة والحزن، (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أي بكونِها أنثى وبشأنِها العظيم، ولكنها حزنت لأنّها لا تعلم شيئا من ذلك. (وَلَيْسَ الذَّكَرُ) أي الذي رجوته (كَالأُنثَى) التي وهبتني إياها، إذ لا قوة لها على العبادة ولا جلَد لخدمة المسجد كما للذكر، وهذا على أن الكلام تتمة لكلام امرأة عمران، ويجوز أن يكون من كلام الله عز وجل، على معنى: وليس الذكر الذي طلبته بمنْزلة هذه الأنثى، فهي أفضل منه بكثير، ولكنها غافلة عن ذلك (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) ومعناها كما قيل: العابدة بلغتهم، واختارت لها هذا الاسم، تفاؤلا بأن تكون من العابدات، إذ قد تعذر أن تكون خادمة لبيت المقدس (وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا) أي أجيرها وأمنعها بحفظك (مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) أي المطرود من رحمة ربه؛ وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان غيرَ مريم وابنها، ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).
آل عمران 37 كفالة زكرياء لمريم: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا) أي قبلها راضيا (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي أحسن قبول وأقامها في أحسن مُقام، (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أي أنشأها ورباها تربية حسنة، حيث قرنَها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والدين (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) أي جعله كافلا لها قائما بمصالحها، وكان زكرياء زوج خالتها، وكذا قرأ عاصم وآخرون، وقرأ الأكثرون: "وكفَلَهَا زَكرِياءُ"، وكذا في قوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) أي المسجد، أو غرفة كانت تقيم بِها داخل المسجد، (وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً) وتنوينه للتعظيم، وقد روي أنه من ثمار الجنة، وروي أيضا أنه كان يجد عندها ثمرة الصيف بالشتاء، وثمرة الشتاء بالصيف (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا) أي من أين لك هذا الرزق الذي ليس كرزق أهل الدنيا؟ (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ) (إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقد ذكروا أن الله تعالى جعل لها ذلك الرزق بدلا من الرضاعة، وأنّها تكلمت وهي صغيرة، وذُكر أيضا أن زكرياء استأجر لها ظئرا ترضعها، والله أعلم.
آل عمران 38 ذكر يحيى بن زكرياء: (هُنَالِكَ) أي في ذلك المكان عند المحراب الذي توجد فيه مريم، أو في ذلك الزمان، حيث استعير اسم المكان للزمان (دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي صالحة (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) أي فتجيب من دعاك، أو مجيبُ الدعاء (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ) أي جبريل، وعبر عنه بالجمع للتعظيم (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) أي في المسجد أو في مكان إقامة مريم (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) أي بمولود اسمه يحيى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ) أي بعيسى بن مريم، لأنه خلق بكلمة كُن، قال ابن عباس: كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، فذلك تصديقه له في بطن أمه، وهو أول من صدق عيسى، (وَسَيِّدًا) هو الشريف الذي يسود في قومه، والذي يفوق الناس في العلم والعبادة (وَحَصُورًا) أي الذي يحصر نفسه ويمنعها من الشهوات، وعن ابن عباس: لا يأتِي النساء مع القدرة، وقيل عن عجز، وروي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ذكره مثل الأنملة، ورُدَّ بأنه صفة معيبة لا تليق بالأنبياء، ولكن إذا ثبت به الحديث، فالله يتصرف في ملكه كيف يشاء (وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) أي في زمرتِهم.
(قَالَ رَبِّ أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لِي غُلاَمٌ) كان هنا تامة (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي بلغتُ الكبر والشيخوخة، كأن الكبَرَ يطلبه فأدركه (وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) أي عقيم لا تلد، وكانت أيضا عجوزا (قَالَ كَذَلِكَ) الأمرُ (اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) يتصرف الله في أمره كيف يشاء (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً) أي علامة تدل على تحقق الموعود، وحصول الولد مني (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي أن لا تَقْدِر على تكليمهم (ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا) أي بالإشارة والإيماء، من غير علة بك (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا) أي في الأيام الثلاثة خاصة، وفي غيرها عامة، شكرا للنعمة (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) أي صل في العشي من العصر إلى الغروب، وفي الصباح، من طلوع الفجر إلى الضحى، أو المراد بالتسبيح قول سبحان الله.
آل عمران 42 تبشير مريم بعيسى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ) أي جبريل، أي اذكر ذلك (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ) أي اختارك وجعلك صفوة النساء (وَطَهَّرَكِ) أي من رذائل الأخلاق، أو من الأقذار الحسية كالحيض والنفاس (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) أي عالمي زمانِها، أو جميع النساء؛ وفي الصحيحين: لم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، وفيهما أيضا: " خير نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خديجة "، وفي سنن الترمذي بسند صحيح: "حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون" (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي داومي على طاعته، أو أطيلي القيام في الصلاة، أو اخشعي فيها، (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ولعلها كانت تقتدي بصلاتِهم في محرابِها، أو مع نساء أخريات يشهدن الصلاة.
(ذَلِكَ) أي الذي تلوناه عليك من أخبار آل عمران (مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ) إذ لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، وقصُّه دليل على صدق نبوتك، فلذلك قال: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ) أي لم تكن معهم، ولم تسمعه ولم تقرأه، بل أطلعك الله عليه (إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ) أي التي يكتبون بِها التوراة (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) روي أنَّهم وضعوا أقلامهم ثم غطوها وأمروا صبيا لم يبلغ الحلم أن يأخذ واحدا، فأخذ قلم زكرياء، وروي أيضا أنّهم رموا أقلامهم في نَهر الأردن، فجرت الأقلام مع الماء إلا قلم زكرياء فارتفع، فكفلها (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي في شأن كفالتها، أو في شأن المولود الذي بشرت به (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ) أي جبريل (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ) أي بمولود، لأنه خلق بكلمة كن (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) والمسيح معناه بلغتهم المبارك (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) أي ذو شرف وقدر (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي عند الله؛ (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) صبيًّا (فِي الْمَهْدِ) هو فراش الصبي في رضاعته (وَكَهْلاً) الكهل ما بين الشاب والشيخ، أي بكلام عظيم، وهو دعوتُهم إلى الله، وفي سورة مريم: "قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا" إلخ...الآيات. (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي واحد منهم (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) على ما جارت به العادة في الحمل والتوليد (قَالَ كَذَلِكِ) أي كذلك الأمر، كقوله: "كذلكِ قال ربك" (اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء) والقائل هو الملك جبريل، (إِذَا قَضَى أَمْرًا) أي أراده (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) والمعنى إذا أراد شيئا فهو يكون ويحدث من غير تأخر، والمراد أن أمر حملكِ بالمولود، إذا أراده الله فهو كائن، ولا يحتاج إلى هذه الأسباب العادية. وقد روي أن ابن خالها يوسف اطلع على حملها، فقال مُعَرِّضا لها: أيكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم، إن الله خلق الزرع الأول من غير بذر، فعلم أن ذلك من الله، فسكت عنها، حتى ضربَها الطلق فنوديت أن اخرجي، فخرجت. (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) أي الكتابة كما روي عن ابن عباس، أو الكتاب المنْزل (وَالْحِكْمَةَ) وهي فهم أسرار الكتاب (وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) من الخاص بعد العام إن أريد بالكتاب المنْزل، (وَرَسُولاً) أي ويرسلُه رسولا (إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) (أَنِّي) أي رسولاً بأني، أو ناطقا بأني (قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) أي بعلامة تدل على صدقي (أَنِّي) بدل من الأولى، وقرأ نافع: "إني" (أَخْلُقُ) أي أصور (لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ) أي فيطير بإذن الله، وقرأ نافع: "طائرا" (وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ) الذي وُلد أعمى (والأَبْرَصَ) والعمى والبرص مما عجز عنه الأطباء (وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ) أي بالدعاء (وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي من الأقوات وغيرها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) أي عظيمة وظاهرة (لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي مريدين للإيمان أو موفقين له. (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي مقرا بصدقها، (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي في شريعة موسى عليه السلام، بسبب اعتدائهم ومجاوزتِهم حدود الله، كما قال تعالى: "ذلك جزيناهم ببغيهم"، وفيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة (وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) أي واضحة دالة على صدقي، وكررها للتأكيد، ولشدة إعراض اليهود عن اتباعه (فَاتَّقُواْ اللّهَ) أي احذروا غضبه وعقابه بطاعته (وَأَطِيعُونِ) أي أطيعوني، فإني رسوله آمركم بأمره وأنْهاكم بنهيه (إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) أي هو خالقي ومعبودي كما هو خالقكم ومعبودكم، فنحن في ذلك سواء (فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) يوصلكم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة.
آل عمران 52 ذكر الحواريين أتباع عيسى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي علمه منهم، أي إصرارهم على الكفر وعزمهم على إيذائه (قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ) أي في الدعوة إلى الله، أو ملتجئين إلى الله (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) الحواري هو خاصة الأصحاب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن لكل نبي حوارياًّ وإن حواريَّ الزبير بن العوام، وسموا بذلك لأنَّهم كانوا مخلصين له في محبته واتباعه، (نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي ديننا هو الإسلام، أي اشهد لنا بذلك يوم القيامة (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي أطعناه (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع الشهداء من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس، يشهدون يوم القيامة على الأمم بأنّهم قد بلغتهم رسلُهم دعوة الحق.
آل عمران 54 مكيدة اليهود لعيسى بن مريم: (وَمَكَرُواْ) أي اليهود، والمكر إيصال الضرر إلى الغير بتدبير محكم أو خداع أو غيره، وذلك أنَّهم وشَوا إلى الملك: أن هنا رجلا يضل الناس ويصدهم عن طاعتك، ورموه بما شاؤوا من الأكاذيب، وأنه ولد زَنية؛ فأمر الملك أن يقتل ويصلب (وَمَكَرَ اللّهُ) رد مكرهم في نحورهم، حيث ألقى شبه عيسى على رجل منهم (وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي أشدهم مكرا، لأنه مكره واقع محله من غير ظلم؛ وقد روي أن الملك لما أرسل في قتله، رفعه جبريل من كوة في البيت إلى السماء، فأمر الملك رجلا منهم أن يدخل عليه، فدخل فلم يجده، وخرج عليهم يخبرهم أنه لم يجده، وقد ألقى الله شبه عيسى عليه، فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى.
آل عمران 55 رفع عيسى بن مريم إلى السماء: (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أي إلى السماء، والواو لا تقتضي الترتيب، وذلك لما ثبت أنه لا زال حيا، وجعله الله علما للساعة، قال تعالى: "وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بِها"، وفي الصحيحين "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ، حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ "، ولما رواه أيضا ابن أبي حاتم من مرسل الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لليهود: " إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة "، وقال تعالى: "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) أي مبعدك منهم، والتعبير بالتطهير للتعريض بأنّهم أنجاس (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ولا يزال اليهود مقهورين تحت سلطان النصارى، بما أيدهم الله عليهم، لأنه أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفارا.
آل عمران 55 الوعد والوعيد: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) يعني يوم القيامة (فَأَحْكُمُ) أي أقضي (بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي من أمر التوحيد وأمر عيسى، وذلك أنه لما رُفع عيسى اختلفوا فيه، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، فقالوا كان فينا ابن الله ثم رفعه الله، وآخرون قالوا هو الله كان فينا ثم ارتفع، وآخرون قالوا هو ثالث ثلاثة، (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) أي ليس لهم أعوان يدفعون عنهم العذاب (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) وكذا قرأ حفص عن عاصم، وقرأ الباقون: فنُوفيهم، أي نؤتيهم أجور أعمالهم وافية تامة (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي من أجل أنه لا يحبهم فقد عاقبهم بما حل بِهم من عذاب الدنيا، وبما ينتظرهم من عذاب الآخرة.
آل عمران 58 تحقيق الحق في شأن عيسى: (ذَلِكَ) الإشارة إليه بالبعيد لبيان عظمة شأنه ومنْزلته (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) أي نقصه عليك، فهو وحيٌ منا (مِنَ الآيَاتِ) لأنّها علامات تدلهم على صدقك، لأنك لست قارئ كتاب (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي المحكَم (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ) في خلقه من غير أب (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) أي من غير أب ولا أم (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) أي فصار بشرا بروح، والتعبير بالمضارع لإفادة أن هذا أمرُه سبحانه وسنته الجارية مدى الدهر، وأنه كلما أراد شيئا لم يتخلف عن إرادته (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) أي الذي تلوناه عليك هو الحق لا سواه، أو الحق ما أوحي إليك من ربك لا سواه (فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ) أي الشاكين. (فَمَنْ حَآجَّكَ) أي جادلك مشككا (فِيهِ) أي في شأن عيسى (مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ)، (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نتباهلْ، أي يُباهِل بعضنا بعضا، أي يلاعن بعضنا بعضا، وندعو بحلول اللعنة على الكاذب (فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) وقد دعا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفدَ نجران إلى المباهلة، فقالوا: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم. ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن كنتم أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، وروي أيضا أن أسقفَّ نجران لما رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقبلا ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين، قال: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تُباهلوا فتَهلِكوا.
آل عمران 62 تحقيق الحق في شأن عيسى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي الخبر الحق في شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والقصص هنا مصدر بمعنى المقصوص (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ) أي وليس كما يزعمه النصارى من أنه هو الله أو هو ابن الله أو ثالث ثلاثة، فكل ذلك مناف لكلمة التوحيد التي بعث بِها جميع المرسلين، ولا إله إلا الله سبحانه (وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره (الْحَكِيمُ) أي المحكم لأمره، وهما صفتان من صفات كماله، والموصوف بالكمال هو الذي يستحق العبادة دون سواه، وهذا إبطال لزعم النصارى حيث ادعوا ألوهية رجل ضعيف عاجز، يحتاج إلى الطعام والشراب (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) قادر على الانتقام منهم، ففيها وعيد شديد.
آل عمران 64 دعوة النصارى إلى التوحيد: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) أي عدل نستوي نحن وأنتم فيها، (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) بأن لا يطيع بعضنا بعضا في معصيته (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) إن أعرضوا فأثبتوا قيام الحجة عليهم بِهذا الكلام، أي قد قامت عليكم الحجة بإسلامنا، لأنّهم يعلمون أنّكم على الحق، وإنما لم يدخلوا في الإسلام لأمور أخرى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) قالت اليهود: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا (وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ) وإنما أحدثت اليهودية والنصرانية بعد زمنه، حيث حرفت التوراة والإنجيل (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) أصله، فألا تعقلون، والفاء عاطفة، ولما كان الهمزة لها صدر الكلام صار: أفلا تعقلون.
آل عمران 66 مجادلة أهل الكتاب بشأن إبراهيم:
(هَا أَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ) أي جادلتم بالباطل (فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ) كالذي قالوه في موسى وعيسى (فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) كشأن إبراهيم (وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا) أي مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق (مُّسْلِمًا) موحدا طائعا لربه (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) حيث زعم مشركو العرب أنّهم على دينه وهم يعبدون الأصنام (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ) أي أحقهم وأخصهم به وأقربُهم إليه (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أي على دينه في زمانه وما بعده (وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ) من الخاص بعد العام تشريفا (وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أي يتولاهم بحفظه وعنايته وينصرهم ويدفع عنهم كيد الأعداء كأمثالكم.
آل عمران 69 تمني أهل الكتاب إضلال المؤمنين: (وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي أحبوا إضلالكم وتمنوه (وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ) أي وما يُهلكون إلا أنفسهم (وَمَا يَشْعُرُونَ) لأن حرصهم على إضلالكم مع وضوح الحق لا يزيدهم من الله إلا سخطا وبعدا (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) أي على صدقها بما سبق عندكم من العلم، وبوضوحها في نفسها (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ) تخلِطون (الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) أو تسترونه به (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ) الذي أنزل في التوراة والإنجيل (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه حق (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ) أي جماعة (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ) ولم ينطقوا بِهذا اللفظ، أو نطقوا به استهزاء، أي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه (وَجْهَ النَّهَارِ) أي في أول النهار (وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ) أي ارجعوا عن دينهم في آخر النهار (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لعل أصحابه يتركون دينه؛ لأنَّهم بزعمهم سيقولون: هؤلاء أهل الكتاب أعلم بالدين منا، دخلوا في دينه ثم تركوه، فلو كان هذا الدين حقا ما تركوه بعدما دخلوا فيه. (وَلاَ تُؤْمِنُواْ) أي لا تظهروا أمركم وتفشوا سركم (إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ) (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ) اعتراض ضمن كلامهم، والمعنى أن الله هو الهادي ولا يضر كيدكم من أراد الله أن يهديه (أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) أي كراهة أن يؤتوا مثل ما أوتينا فيساوونا في الفضل، يعني لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم فيساووكم في الفضل (أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ) كنحو قوله في البقرة: "أتحدثونَهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) واسع الفضل عليم بأهله ومن يشكره عليه فيختصه به (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
تفسير 274 آل عمران 75 ذكر معاملة أهل الكتاب: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ) أي تستأمنه عليه، والقنطار المال الكثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا) أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، يعني أن منهم الخائنين ومنهم الأمناء (ذَلِكَ) أي عدم أداء الحق (بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ) في أكل أموالهم، أي العرب (سَبِيلٌ) أي حرج أو إثم أو ذم، وأن الله أحلها لنا، (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ) حيث زعموا أنَّ ذلك في كتابِهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أنَّهم كاذبون (بَلَى) أي عليكم إثم ذلك (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي يحبهم ويبغض من لم يتَّق ولم يوفِ بعهدِه، وذكرهم بالاسم الظاهر تنويها بشأنِهم.
آل عمران 77 وعيد من ينقض العهود: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ) أي أمر الله وما يلزم الوفاء بِه (وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) أي يستبدلون به عوضا حقيرا (أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ) أي من نعيمها (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ) أي بكلام الرضا وبما يسرهم (وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بعين العطف والرحمة (وَلاَ يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من الذنوب والأدناس (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع؛ وذلك أن اليهود والنصارى لم يوفوا بما عاهدهم الله عليه من الإيمان بخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واستبدلوا بذلك عوضا حقيرا، وهو ما يصرف للعلماء من الأجور. وروى البخاري عن ابن أبي أوفى أن رجلا أقام سِلعة وهو في السوق، فحلف بالله لقد أعْطَى بِها ما لم يعط ليوقع فيها رجلا من المسلمين، فنَزلت الآية. وأخرج الشيخان من حديث ابن مسعود والأشعث بن قيس، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيها فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ".
آل عمران 78 تحريف اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا) أي جماعة (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ) أي يحرفونه ويبدلونه لفظا ومعنى (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) بل هو مما بدلوه وحرفوه (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ) (وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ) بل هو من عند أنفسهم (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أنَّهم كاذبون، ويعلمون عاقبتهم، وأنه لا يجوز لهم ذلك.
آل عمران 79 الإنكار على النصارى بشأن التوحيد: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ) أي الحكمة (وَالنُّبُوَّةَ) (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ) أي ثم يأمرهم أن يعبدوه من دون الله، وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما دعا النصارى إلى التوحيد قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني، (وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ) أي حكماء فقهاء (بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) أي بمداومتكم على تعليم الكتاب، أي تعليمه للناس (وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) أي وبدراستكم له، والدراسة تَكرار القراءة. وقرأ نافع وآخرون "تعْلَمون"؛ (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا) أي كيف يأمركم أن تعبدوه وهو ينهاكم عن عبادة غير الله من الملائكة والأنبياء (أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) يعني لا يأمركم.
آل عمران 81 أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) اللام للقسم وما شرطية (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ) يدعو إلى مثل ما تدعون إليه (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ) جواب القسم لتقدمه على الشرط (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) أي عهدي (قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ) أي ليشهد بعضكم على بعض، أو ليشهد كل نبي على أمته (وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) أي على ما أقررتم عليه. وما من نبي بعثه الله في أمة قد خلت إلا ويأخذ عليه العهد والميثاق أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويتبعه وينصره. وفي مسند أحمد: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي. (فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ) أي بعد الميثاق (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) أي المجاوزون للحدود في المعاصي والكفر.
آل عمران 83 الإسلام دين جميع الأنبياء: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ) وقرأ الأكثر تَبغون، أي تطلبون (وَلَهُ أَسْلَمَ) أي انقاد (مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي طائعين ومكرهين، فالمؤمن مستسلم لله طائعا، والكافر مستسلم لله كرها، فإنه تحت التسخير والقهر (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ) أي أبناء يعقوب (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) أي التوراة والإنجيل، ويجوز أن تدخل فيه المعجزات (وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ) أي كلهم، تعميم بعد تخصيص، وخص أولئك بالذكر لأن أهل الكتاب المنازعين لا ينازعون في نبوتِهم (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما يفعل أهل الكتاب (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي منقادون طائعون أو مخلصون موحدون؛ (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ)أي التوحيد، أو شريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، (دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) لأنّهم يحرمون من الثواب ويحل عليهم العقاب.
آل عمران 86 كفر أهل الكتاب مع وضوح الحق: (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) وهم أهل الكتاب (وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ) بما ذكر من نعوته في كتبهم (وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي البراهين والحجج القاطعة الدالة على صدقه (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي الذين يتبعون الأهواء فيُصَدُّون عن الحق (أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ) أي الطرد والإبعاد من رحمته (وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي دعاؤهم لهم بإبعادهم (خَالِدِينَ فِيهَا) في اللعنة أو في النار المدلول عليها باللعنة (لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ) لا يؤخرون عنها إلى وقت آخر (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ) أي صاروا صالحين، أو أصلحوا ما أفسدوا بإظهار الحق الذي كتموه (فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ) يتجاوز عن عباده ويحسن إليهم ويثيبهم.
آل عمران 90 وعيد المصرين على الكفر: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) هم أهل الكتاب كفروا بعيسى بعد إيمانِهم بأنبيائهم (ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا) أي بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو المعنى كفروا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد أن آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار على الكفر والعناد (لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأنَّها لن تقع على الوجه المرضي، وهذا لا يرد ما عرف في الأصول من أن باب التوبة مفتوح ما دون الغرغرة أو طلوع الشمس من مغربِها (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ) أي عن طريق النجاة، أي هم أولى بِهذه الصفة، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ) أي لن تقبل توبته ولو فدى نفسه بملء الأرض من الذهب (أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم (وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) يدفعون العذاب عنهم. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك، أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشركَ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق